Deprecated: Function create_function() is deprecated in /home/www/drfmim.com/wp-content/plugins/LayerSlider/wp/widgets.php on line 4

Deprecated: define(): Declaration of case-insensitive constants is deprecated in /home/www/drfmim.com/wp-content/plugins/export-plugins-and-templates/export-plugins-templates.php on line 11
أكثر من مجرد إعلان - د. فراس محمد

أكثر من مجرد إعلان

أكثر من مجرد إعلان

كثير من الناس يسعدون عندما يقع نظرهم على وثيقة قديمة أو إعلان ينقل لهم صورة زمن يعتقدونه زمنا جميلا، ويتمنون لو أنهم عاشوا فيه أو لو أن واقعهم كماضيهم.. وأنا أقلب في أعداد جريدة التقدم العراقية والتي تعود إلى العام 1928 أي قبل تسعين سنة بالضبط، لفت نظري إعلان تكرر في عشرات الإعداد لسيارة كريسلر بخمسة فئات توفرت لدى وكيل الشركة في العراق آنذاك، وقد صيغت الإعلانات بطريقة ترغب المستهلك فهي تتحدث عن سيارة لا تستهلك الكثير من الوقود، وأنها سيارة الأغنياء وأصحاب المهن الرفيعة في البلد كما يقول الإعلان، والحقيقة أن إعلانات السيارات في الصحف هي هي لم تتغير بتغير السنين، ربما تغير نوع الصورة فأصحبت أكثر دقة وبالألوان والوصف أصبح مختصرا، ومن يعلن هو صاحب وكالة السيارات وهذا حاصل في كل دول العالم في الماضي والحاضر.

إلا إنني عندما رأيت إعلان سيارات الكريسلر القديم على أعداد صحيفة التقدم لم يتملكني ذلك الشعور بالحنين إلى الماضي الذي لم نعشه، وإنما مثلت لي تلك الصورة حالة المجتمع بين زمنين، زمن امتد منذ بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة في 1921 وانتهى في العام 1968، وآخر ابتدأ مع انقلاب 1968 وانتهى باحتلال العراق في 2003، ففي الزمن الأول كانت السيارة مجرد وسيلة فهي واسطة نقل تسهل على الناس انتقالهم، قيمتها مرتبطة بالسعر الذي تحدده الشركة المصنعة ووكيلها في العراق، والحصول عليها متاح في أي وقت لمن يملك المال لشرائها ولمن لا يملك يمكنه الحصول عليها بالتقسيط، يحصل عليها المستهلك من الوكيل بمنتهى الذوق، فقد ذكر لي والدي على سبيل المثال إن إحدى وكالات السيارات كانت تستقبل المشتري في معرضها وبعد أن يطلع على السيارات المعروضة لديهم ويختار إحداها ويحدد اللون المناسب يذهب للاستراحة في صالة خاصة بينما تجلب السيارة من المخزن وتغسل من المواد الحافظة ثم تضع له الشركة علبة حلوى مستوردة من النوع الفاخر وخمسة دنانير داخل السيارة من أجل تعبئة الوقود لأكثر من مرة كنوع من الدعاية، كان ذاك يوم كان راتب الموظف أربعين دينارا، في ذلك الزمن لم يكن للسيارة تأثير على سلوك المجتمع وبنيته، لكن بعد انقلاب 1968 تغير الوضع تماما إذ اختفت وكالات السيارات وحل محلها الشركة العامة لتجارة السيارات التابعة لوزارة التجارة، وبدأت هذه الشركة تستورد السيارات من مناشئ ومصانع بناء على علاقات الدولة السياسية والعسكرية مع الدول، فأغرقت الشوارع في مرحلة السبعينيات بسيارات “خردة” من الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية تبعا لصفقات الأسلحة التي تستوردها الدولة من تلك الدول، واختفت الماركات العالمية التي كانت تسير في الشوارع، وبدلا عنها امتلأت شوارع العراق بأسوأ أنواع السيارات في العالم من أنواع فولكا ولادا وبولسكي وفيات وموسكوفيتش، وبدلا من أن يختار الإنسان سيارته بناء على ذوقه ورغبته أصبح مجبرا على التقدم بطلب إلى الشركة العامة لتجارة السيارات ويدفع لها مبلغ السيارة دون معرفة ما هي نوع السيارة التي سيشتريها وما لونها ومواصفاتها ثم ينتظر بعد ذلك مدة سنتين حتى يحصل على سيارته التي لن يعرف نوعها ولونها إلا عندما يستلمها، وكثير من الناس دفعوا الأموال وقدموا طلباتهم للشركة وحصلوا عل السيارة بعد 22 سنة! كما حصل مع أولئك الذين قدموا طلباتهم في العام 1979 و 1980 وحصلوا عليها في العام 2001 وأجبروا على دفع أموال إضافية ليست بالقليلة، أما في مرحلة الثمانينيات فتوقفت الشركة عن استيراد سيارات الدول الاشتراكية واستوردت صنفين من السيارات الصنف الأول ياباني المنشأ وكان على درجتين الأولى متوسطة كانت توزع على شكل هبات أو هدايا أو بمبالغ رمزية لبعض موظفي الدولة كالقضاة ونواب الضباط ولأعضاء حزب البعث الذين أتموا 25 سنة في الحزب والمتطوعين في الجيش والمؤسسات الأمينة، وقسم كبير منها منح كنوع من التعويض لذوي الجنود الذين قتلوا في حرب إيران، أما الدرجة الثانية فكانت سيارات فارهة وزعت كهدايا لضباط الجيش والوزراء ومن هو بدرجة مدير عام وأصحاب الدرجات الخاصة، وكبار أعضاء حزب البعث.

الصنف الثاني من السيارات كان من نوع فولكس واكن باسات برازيلية الصنع يعود موديلها لمنتصف السبعينات وصنعت في الثمانينيات واشراها العراق مع صفقات الأسلحة، كانت توزع لأفراد الجيش ولذويهم عند موتهم خلال الحرب، أما باقي أفراد المجتمع فليس لهم إلا أن يشتروا السيارات من تلك الفئات المذكورة وبمبالغ كبيرة، ومن يفكر في استيراد سيارته من الخارج فعليه المرور بإجراءات مريرة يستحصل خلالها إجازة استيراد وهذه لا تصدر إلا وفق شروط ضيقة ثم يدفع جمارك مرتفعة، وهو أمر لم يقدم عليه إلا القلة القليلة وكان عليهم أن يأتوا بنفس أنواع السيارات التي تأتي بها الدولة لأنها أي الدولة حصرت استيراد قطع الغيار بالشركة المذكورة آنفا ومن يستورد لنفسه نوعا مختلفا تواجهه مشكلة قطع الغيار إن لم يستورد من نفس نوع سيارات الشركة العامة لتجارة السيارات، ونتيجة لكل ذلك تحولت السيارة في ذلك العهد من مجرد وسيلة إلى غاية تطلب وبدأ تفكير المجتمع يتغير، ففئة الشباب والتي يتطلع أصحابها للحصول على السيارة بدأ تفكير أصحابها يتوجه نحو التطوع في الجيش أو المؤسسات الأمنية أو الانضمام للكلية العسكرية على أمل الحصول على سيارة لإن هذه هي المسالك التي من خلالها يحصل المرء على سيارة، أما المجتمع فقد دبت فيه الخلافات خصوصا في العوائل التي قضى أبناؤها في الحرب العراقية الإيرانية فالزوجة تريد السيارة والأب يريدها، وانشغل ذويهم في تحصيل هذه المكاسب العظيمة! وبعد أن كان مشتري السيارة يحصل عليها بمنتهى الذوق من الوكالة باتت الرحال تشد إلى صحراء الرطبة غرب العراق لاستلام السيارة الموعودة من مخازن الشركة في العراء، وتسببت هذه السياسة بتحويل السيارة من مادة استهلاكية يحتاجها الإنسان كوسيلة إلى غاية ومادة ذات قيمة معنوية عالية، وأصبحت منح الدولة العينية عبارة عن سيارات بها تحشد الدولة أفرادها وتشتري ولائهم، ويثبت النظام أركانه، لأنه من أراد أن يمتلك سيارة جديدة فإما أن يكون من طبقة الأغنياء وهم قلة وإما أن ينذر نفسه في خدمة الدولة ونظامها، وهكذا فالعراقيين الذين وصلت أعمارهم إلى 55 وربما 60 سنة الآن لم يفطنوا على شيء اسمه وكالات السيارات العالمية في العراق، وأقصى ما عرفوه في هذا المجال إعلانات وكالات السيارات في الدول المجاورة للعراق من خلال صحفهم التي تصل إلى العراق في السبعينيات والثمانينيات.

مر العهدين السابقين ووصلنا إلى عهد امتد منذ الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله في العام 2003 وحتى يومنا الحاضر فعادت السيارة متاحة للجميع ولم تعد السيارة غاية يجب إداركها، فقد سمح النظام الحاكم حاليا لشركات السيارات بافتتاح وكالاتها في العراق، وفي الوقت نفسه سمح لعصاباته وميليشياته بسلب ونهب هذه السيارات من الناس بعد شرائها لا سيما الفارهة منها، فابتت السيارة الفارهة مصدر قلق لصاحبها إن لم يكن جزءا من العصابة الحاكمة أو يحظى بحمايتها.