قبل أربع سنوات تقريباً زرت أحد الأصدقاء في ماليزيا وكان يسكن في مجمع سكني داخل إحدى الجامعات، وذات صباح لفت انتباهي وقوف عدد من الشباب بجانب سيارة غريبة الشكل أخرجوها من قاعة كبيرة أمام موقع السكن وبدؤوا بتحريكها والتجول فيها، سألت صديقي عنهم، فقال هذه المختبرات التابعة لكلية الهندسة وهؤلاء مجموعة من الطلبة تشاركوا في إعداد مشروع تخرجهم وهو عبارة عن صناعة سيارة تعمل بالطاقة الشمسية، وكل صباح يأتون إلى هذا المكان ويخرجون السيارة لإجراء الاختبار والتعديل عليها حتى تكون جاهزة للتقييم.
بعدها بفترة قصيرة جداً جمعني لقاء بأحد الزملاء، وهو أستاذ مهندس يعمل في مركز بحثي في إحدى الجامعات الهندسية في دولة عربية ليست بعيدة عنا، ودار بيني وبينه حديث عن الرواتب المتدنية لأساتذة الجامعات في بلده قياساً بمهن أخرى، قال لي ربما وضعنا في المراكز البحثية أفضل من غيرنا في باقي الكليات، فنحن مطالبون بإنجاز مشروع مبتكر كل سنة تتولى إحدى وزارات الدولة شراءه ثم نستخرج كلفة المشروع وتوزع الأرباح على الباحثين في المركز وبذلك نحصل على مبلغ إضافي كل عام، وذكر لي مثالاً عن مشروع العام الذي سبق حديثنا وكان عبارة عن نافورة كبيرة توضع في إحدى الساحات وتعمل بالطاقة الشمسية، ومن المفترض أن المركز البحثي يصمم هذه النافورة ويصنعها بقدراته الذاتية، ولكن المركز اكتفى بمخاطبة إحدى الشركات الآسيوية وحدد لها المطلوب ثم شحنت النافورة ووصلت إلى الجامعة وأعيد تركيبها لتسلم في نهاية العام على أنها من اختراع وإنتاج الجامعة، فما يرصد من مبالغ لمشروع كهذا، لا يمكن الباحثين من التفرغ التام له.
بالتأكيد هناك نماذج أفضل في الدول المتقدمة من النموذج الماليزي، تقابلها نماذج أسوأ في الفساد من نموذج النافورة التي ذكرت في دولنا ودول أخرى، ولكن هذا ما اطلعت عليه شخصياً، والعبرة هنا ليست بذكر أكثر من نموذج إنما القضية تتعلق بنهضة حضارية تعيشها دول كانت إلى عهد قريب جداً بعيدة كل البعد عن الإنجاز الحضاري واليوم تبني حضارة، يقابلها دول كانت مهداً للحضارات وأصبحت اليوم مقبرة لها، الحضارة جملة من الإنجازات الإنسانية لأمة أو مجتمع خلال فترة زمنية معينة تمت بهدف تيسير حياة الإنسان وتسهيلها، وتشمل جانبين الأول المنجزات المادية كالصناعة والابتكار فيها والآخر المنجزات غير المادية كالعلوم والفنون النظرية، وعلى هذا فمن يسعى للإنجاز في أي جانب إنما هو يسعى لبناء حضارة أما من لم يحاول التقدم وتقديم الدعم اللازم له والتشجيع عليه فلن يتمكن من الوقوف أمام الأمم.
مؤسف جداً واقع البحث العلمي في عالمنا العربي، لكنّ عزاءنا عند المقارنة بين المثلين السابقين القائمين على تقنية الطاقة الشمسية أن لا فرق بين سيارتهم ونافورتنا فكلتاهما من صنعهم!.
بقلم: د. فراس الزوبعي