عملية التحول الاستراتيجي العميق تحتاج إلى أحداث كبيرة لتتحقق، كتلك التي أعقبت الحرب العالمية الأولى فاختفت بسببها إمبراطوريات ونشأت دول جديدة وتغيرت خارطة العالم السياسية، فإن لم تكن هناك حرب عالمية؛ فلا بد من أحداث كبيرة ومزلزلة تحصد الأرواح وتنهك الناس، كإغراق المنطقة في بحر الفوضى العارمة سنين طويلة بعدها تتم عملية التحول، وعلى هذا وقع اختيار أمريكا والغرب لإجراء تحولات في الشرق الأوسط، لكن هذه الفوضى لا يمكن أن تكون من دون وجود قوة لها القدرة على الصراع الطويل ولها أعداء تتصارع معهم فتكون الفوضى التي يعقبها التحول وربما تعاد صياغة النظام العالمي بأكمله.
إن كان تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» هو القوة والطرف الأبرز القادر على الصراع الطويل، فإنه لم يكن ليتشكل وينتشر ويتوسع بهذه الصورة لولا وجود المناخ المناسب، وبما أن الشرق الأوسط منطقة يسكنها المسلمون بأغلبيتهم الساحقة، وأقصد السنة، كان لابد إحداث خلل وخسائر كبيرة في واقعهم ليبدأ جزء منهم في التحرك والتعبير عن الاستياء، وهذا ما فعلته أمريكا بالضبط، فبعد احتلالها للعراق سلمته بالكامل إلى حكومة طائفية، كان ومازال الانتقام هاجسها الأول، فظلمت ونكلت واغتصبت الحقوق حتى أوصلت الطرف المقابل إلى الحالة التي لم يعد لديه شيء ليخسره، وبذلك وفرت أمريكا المناخ المناسب لظهور أكثر الناس تشدداً لقيادة عملية الصراع التي تصنع الفوضى
وذات الأمر فعلت في اليمن اليوم؛ عندما فسحت المجال أمام الحوثيين ليعيثوا في الأرض الفساد، وسمحت قبلها للأقلية العلوية في سوريا أن تذبح وتقتل معارضيها، ورغم أن معظم السنة لا يتوافقون فكرياً مع «داعش» إلا أنها تتمدد في مناطقهم، ذلك أن التعايش مع الطائفيين وتحمل جرائمهم أصبح أمراً غير ممكن الحدوث، وأصبح وجود «داعش» مسكوتاً عليه عند الناس لأن بديله الميليشيات التابعة لإيران التي لا تكتفي بالذبح وإنما تمثل بالجثث وتسلخها كما تسلخ الذبائح، كل ذلك والعالم يشاهد ويسمح بترويج هذه المقاطع على اليوتيوب وغيره.
ولن يقف الأمر على مناطق النفوذ الحالية؛ بل من الممكن جداً أن يتمدد هذا التنظيم ليدخل دولاً أخرى تشهد تفتيتاً وانهياراً مثل ليبيا، وذلك بسبب وجود المناخ نفسه، لتكون المحصلة النهائية الفوضى ولا شيء غيرها، فسكان مناطق نفوذ «داعش» أمامهم خياران فقط أحلاهما مر، لكنهم بالتأكيد يختارون أقلهما مرارة، أما بالنسبة لإيران التي هي جزء من الشرق فإن كانت اليوم تؤدي دور الأداة في الاتجاه المقابل فهذا لا يعني أنها ستكون بعيدة عن الفوضى، فالمتابع يعرف أن إرهاصاتها ظهرت بالفعل في إيران وستصيبها الفوضى بعد انتهاء دورها في الدول العربية، وبعد أن تأخذ الفوضى مداها سيعاد ترتيب خارطة الشرق الأوسط من جديد، لن يكون ذلك خلال سنة أو سنتين بل سنين طويلة بخسائر بشرية ومادية هائلة.
بقلم: د. فراس الزوبعي