حق لهم أن يحنّوا لتلك الأيام

هكذا تم إعدام شفيق عدس…

يقول أحمد مختار بابان وهو قاضٍ ووزير في أكثر من وزارة ورئيس للديوان الملكي حتى انتهى به الأمر إلى أن يكون آخر رئيس وزراء للعراق في العهد الملكي: في مساء أحد الأيام دخل علي الخادم وأخبرني بوجود شخصين يريدان مقابلتي، وعندما خرجت إليهما تعرفت على أحدهما وهو يهودي عراقي تربطني به صداقة قديمة، رحبت به وصافحته فقدم لي الشخص الآخر وكان أجنبياً، ثم دخلنا إلى البيت، وبعد المجاملات الترحيبية وشرب القهوة، سألت صديقي اليهودي إذا كانت له حاجة أو يحتاج إلى مساعدة، فقال لي: زيارتنا هذه لها أهميتها وتعقد عليها الآمال خارج العراق وداخله، فتبسمت وقلت له «إن شاء الله خير»، ثم التفت إلى صاحبه الأجنبي وطلب منه طرح الموضوع، فبدأ يتحدث بالإنجليزية، وأخذ يمتدحني ويثني على درايتي بالقانون والسياسة والاجتماع، وكنت أتابع كلامه باهتمام حتى صدمني عندما طرح الموضوع الذي جاء من أجله والذي لم يكن في الحسبان، فقال لي: يا صاحب المعالي أنا من يهود أوروبا وأتكلم معك الآن لا باسمي فقط وإنما نيابة عن المنظمة الصهيونية العالمية.

فأصابني حديثه بالذهول وأخذت أرتعد، لكني حاولت تمالك نفسي حتى لا يشعر بانفعالي، واستمر هو بكلامه قائلاً لي إن منظمته على اطلاع كامل بعلاقتي مع الوصي على عرش العراق الأمير عبدالإله وكيف أن علاقتي به وثيقة وأنه لا يرد لي طلباً، ثم عرض علي ثمانية ملايين جنيه إسترليني يضعونها في أي بنك أختاره في العالم، ولك عزيزي القارئ أن تتخيل قيمة هذا المبلغ في أربعينات القرن الماضي.

هذا المبلغ فقط مقابل أن أطلب من الأمير عبدالإله تخفيف حكم الإعدام بحق اليهودي العراقي شفيق عدس، الذي له شأن كبير عند المنظمة كما قال، وشفيق عدس تاجر يهودي عراقي من أصل سوري هاجر مع عائلته خلال الحرب العالمية الأولى من حلب إلى بغداد ومنها إلى البصرة ليصبح بعدها من كبار التجار، وكان وكيل شركة فورد في العراق، شفيق كان يشتري بقايا أسلحة الجيش الإنجليزي المتروكة في مطار الشعيبة ثم ينقلها إلى إيطاليا ومنها إلى العصابات الصهيونية في فلسطين، وكذلك ثبت تجسسه لصالح إسرائيل في العراق وحكم عليه بالإعدام.

وبعد هذا العرض السخي رد عليهم أحمد مختار بابان بقوله: والله لو أعطيتموني كنوز الدنيا لما فعلت هذا الأمر، ولتعلما أن الشعب العراقي بأسره يطالب بإعدام هذا الخائن والحكومة مرتاحة للحكم، ثم طلبت منهما الانصراف، لكن ليلتها لم تغمض عيني لحظة واحدة، وفي صباح اليوم التالي توجهت باكراً إلى البلاط الملكي وما إن دخل الأمير عبدالإله إلى مكتبه حتى دخلت عليه، فلما رأى ملامح وجهي سألني عن سبب انزعاجي وهل أن صحتي بخير، فأخبرته بما حصل معي في الليلة الماضية، فساد الصمت المكان، ثم قال لي أين أوراق شفيق عدس، فقلت: على مكتب رئيس الديوان الملكي، فأمر بإحضارها، وما هي إلا دقائق حتى كانت الأوراق أمامه، فأخذ قلمه، وقال لي: اسمع يا مختار، أوقع الآن أمامك على تنفيذ الحكم وستصدر الإرادة الملكية بإعدامه هذا اليوم، وإني متأكد من أن ذلك سيريحك ويريح الشعب العراقي، وفعلاً نفذ حكم الإعدام بالصهيوني شفيق عدس، كان ذلك في العام 1949.

منذ سنوات قليلة وهناك ظاهرة بين العراقيين، وهي أن كثيراً منهم يستذكرون أيام الحكم الملكي في العراق ونزاهة رجاله ويحنون لتلك الأيام، وحق لهم ذلك، فبعد أن مر عليهم عصر يرتعد فيه الوزير من عرض رشوة تساوي مئات الملايين في أيامنا هذه، إلى أيامهم الحالية التي يدفع فيها السياسيون ملايين الدولارات للحصول على منصب الوزير ليدر عليهم خلال أربع سنوات ملايين الدولارات بين سرقات ورشاوى، رحم الله زماناً بنى فيه الرجال دولتهم، ولا رحم الله أناساً هدموا تلك الدولة.

بقلم: د. فراس الزوبعي