في صباح يوم 12 ديسمبر 1564 استيقظ سكان موسكو على مشهد أدهشهم وحيرهم، مئات الزلاجات تملأ ميدان الكرملين وتنقل قيصر روسيا إيفان الرابع وأسرته وكنوزه وقوة حراسة صغيرة، إلى إحدى القرى جنوب العاصمة التي غادرها معلناً تنحيه عن العرش.
لم يتخذ هذا القرار زهداً في العرش لكن إخفاق القيصر في بعض حملاته جعله يواجه واقعاً صعباً في الداخل فالتجار والنبلاء الذين عمل على إثرائهم سيطروا على أنحاء البلاد واضطهدوا الفلاحين وأرهبوا الناس وأثاروا الفتن في الداخل وكانوا يحدون من سلطة القيصر، وقسم منهم بدأ يتآمر مع الخارج ويعمل مع أعداء روسيا، وفي هذه الظروف كان القيصر بأمس الحاجة إلى الإصلاح لكنه لا يستطيع فرضه، ومع كل هذه الأحداث وجد أنه لو ضرب في اتجاه سينكشف ضعفه بالاتجاهات الأخرى، ففكر بحل يمنحه سلطة مطلقة لم تكن لديه في السابق، ووضع خطته التي كان أولها مفاجأة سكان موسكو بالرحيل، ثم بعد وصوله إلى مكانه الجديد أرسل بيانين إلى موسكو الأول أعلن فيه أن النبلاء والتجار والكنيسة تآمروا عليه وعلى الدولة ولذلك قرر التنحي عن العرش ليعيش في عزلة، أما البيان الثاني فذكر فيه أنه يحب أهل موسكو ويثق بنياتهم الطيبة، فكان للبيانين تأثير مروع على الناس فالقيصر تخلى عنهم لمن يضطهدهم واتهموا النبلاء والتجار أنهم السبب في تنحي القيصر، وعلى الفور شكل وفد وذهبوا إلى القيصر يتوسلون إليه العودة إلى الحكم فرفض، وبعد إلحاح خيرهم بين أمرين فإما أن يعود بسلطة مطلقة أو يبحثوا لهم عن حاكم جديد، فوجدوا أنفسهم بين خيار القبول بحاكم طاغية أو الدخول في حرب أهلية فقبلوا به حاكماً بسلطة مطلقة وعاد بعد أقل من شهرين ليستعيد النظام وسط احتفالات الجماهير الذين لم يتمكنوا بعدها من التذمر.
تكاد الظروف التي يمر بها رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني الآن تتشابه إلى حد كبير مع الظروف التي عاشها إيفان الرابع، فبعد أحداث الاستفتاء ضعفت سلطته بالإضافة إلى أنها انتهت من الناحية الدستورية، وهو فعلياً يتهم جزءاً من الأكراد بالخيانة وتسليم مواقعهم في كركوك إلى الجيش العراقي الذي يعتبره عدواً له، يضاف إلى ذلك عداوة الشمال المتمثل بتركيا والشرق المتمثل بإيران فهو محاصر بأعدائه، فاتخذ خطوة التخلي عن رئاسة الإقليم كإجراء سياسي يبتعد من خلاله عن استخدام العنف وإشعال حرب أهلية، وبذلك لن يجبر أحداً على فعل شيء بل يمنح الآخرين فرصة الاختيار للقبول بتخليه عن السلطة وترك الإقليم للفوضى أو إعطائه سلطات أوسع من التي كانت لديه.
التنحي يعد إحدى الطرق التقليدية للتحكم بخيارات الآخرين، ومن الناحية العملية لن يكون هناك تخلٍّ حقيقي عن السلطة فزعامة بارزاني مستمدة من العائلة ذات الزعامة القبلية، في خطاب بارزاني الذي أعلن فيه عن عزمه التنحي عن السلطة أرسل أكثر من رسالة، فعلى المستوى الشعبي أشعر الأكراد أنه عمل وناضل من أجل استقلالهم وكان مخلصاً لهم ولولا هذا العزم لما آلت الأمور إلى ما آلت إليه، كما أعلن أنه كان جندياً في البشمركة وسيبقى ولا صديق للأكراد إلا الجبل، وفي هذا إشارة واضحة إلى عدم الاستسلام، كما أكد أن الاستفتاء لا يمكن محوه أبداً، وعلى المستوى الشعبي بدأ الأكراد يتخوفون من أن النتيجة ستكون حكمهم من قبل قاسم سليماني والحرس الثوري من ورائه، وفعلاً بعد إعلانه بدأت الاضطرابات في أربيل ودهوك التابعة له وبدأت عمليات حرق مقرات حزب الاتحاد الذي يتهمه بارزاني وفريقه بالخيانة، وفي هذه الأحداث رسالة لأمريكا التي لها خمس قواعد في كردستان كان شرط سليماني على بارزاني إغلاقها مقابل السماح له بالبقاء فيما تعرف بالمناطق المتنازع عليها، ليقول لأمريكا إنه في الجبل وعليها مواجهة إيران والاضطرابات في كردستان.
ستخرج مظاهرات تطالب بارزاني بالعدول عن قراره وقد يعود بشخصه أو قد لا يعود لكنه أو أحد من أفراد عائلته سيتصدر المشهد من جديد وستكون له سلطة مطلقة بعد هذه الأحداث.
بقلم: د. فراس الزوبعي