ولذلك جاؤوا بعدها بالملك فيصل بن الشريف حسين من الحجاز، لكن قبل أن يأتوا بالملك فيصل شكلوا حكومة عراقية مؤقتة، وفكروا بمن يرأس هذه الحكومة فأجمع المندوب السامي السير بيرسي كوكس والمس بيل وفيلبي، على أن أفضل شخص هو السيد عبدالرحمن النقيب، لكنهم يعلمون جيداً أنه وقبل سنة ونصف رفض ملك العراق فكيف سيقبل برئاسة حكومة مؤقتة، فتولى كوكس هذه المهمة وبقيت بيل وفيلبي في مقر المندوب ينتظرون النتيجة، بعد أن عاد كوكس نظر إليها، وهو يلهث من التهيج قائلاً: «نعم، لقد قبلها»، تقول المس بيل «وهكذا تحقق أول نجاح،.. تطايرنا أنا وفيلبي من الفرح لمدة نصف ساعة وأخذنا نمجد النقيب كما نمجد كوكس،.. إقناع النقيب برئاسة الوزراء أشبه بالمعجزة».
لا أحد يعرف على وجه الدقة سبب تحول موقف النقيب لكن قيل إن كوكس بين للنقيب إنه في حال عدم قبوله المنصب فإنه سيضعه بيد آخرين ليسوا من الأسر المعروفة ومن أصحاب المطامع وكانوا كثيرين وسيتحمل هو برفضه سبب تدمير البلاد، ولا يعرف أكثر من ذلك وربما عرض عليه أسماء شخصيات يعرفها النقيب، فوافق وتسنم المنصب.
المهم في هذا الموضوع أن أمريكا عندما غزت واحتلت العراق عام 2003 لم تقدم على هذه الخطوة إلا بعد أن اصطحبت بريطانيا التي تملك مفاتيح العراق، لكن بريطانيا التي حرصت قبل 100 سنة عندما قسمت المنطقة العربية إلى دول ألا تضع على رأس هذه الدول حكاماً نكرات، وحرصت أن يتولى الأمر شخصيات من الأسر العريقة التي لها تاريخ مع الشعب أو من الأشراف، كان لها سلوك مغاير في العراق بعد 100 سنة وقدمت لأمريكا شخصيات من مستوى اجتماعي وأخلاقي على النقيض من الشخصيات التي حرصت أن تتولى الحكم قبل 100 سنة، وهي تعرفهم جيداً فهم بين جائع وفاقد للمنزلة الاجتماعية وخائن ومنبوذ ومريض نفسياً، وأمريكا وضعتهم على رأس السلطة في العراق، فلم فعلت بريطانيا ذلك؟
من غير المعقول أنها لا تعرف حقيقة من قدمتهم، كما من غير المعقول أنها لا تدرك نتيجة تصدرهم؟ لذا فما فعلته مقصود وتعرف نتائجه وقد تريد من خلاله الوصول بالبلد إلى حالة تجعل مكونات الشعب العراقي «السنة والشيعة والأكراد» يقبلون بما أعد لهم على المستوى البعيد، ليس القبول به فقط وإنما سيكون مطلباً للجميع، وهي تعرف أن من قدمتهم خير من يوصل البلد إلى هذه المرحلة.
ربما سيستقر العراق بعد فترة على وضع تكون فيه الدولة فقيرة وخيراتها موزعة على الدول الكبرى والشعب راضٍ بحاله متمسك بمن سيحكمه لأنه سيوفر له الأمن ويسمح له بالعمل، وربما ستقدمه بريطانيا أيضاً وسيكون من طراز القرن الماضي.
رحم الله السيد عبدالرحمن النقيب، ما الذي رآه في بصيرته أكبر من «دمار العراق التام» كما قال، بحيث اضطر لخرق مبادئه وقبل برئاسة الوزارة كي لا يحدث ما هو أكبر من الدمار التام، ربما رأى صورة العراق اليوم.