عندما نسمع أو نقرأ كلمة «ميليشيات» فإن أول ما يتبادر إلى الذهن رائحة الموت ولون الدم وتلك الوجوه الكالحة التي تنشر الرعب والخراب بأفعالها، كما تتبادر إلى الذهن صورة البلد وقد تحول إلى غابة ليس للقانون فيها نصيب، وفي بعض الدول يقفز إلى الذهن مصطلح الطائفية أيضاً كما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
لا أريد هنا الحديث عن الميليشيات التي تنشأ هنا وهناك بين فترة وأخرى لغاية مادية أو معنوية وتكون على نطاق محدود، لكني سأتكلم فقط عن تلك الميليشيات التي يرعاها النظام الحاكم ويطلق على عملها «إرهاب الدولة»، في العراق مثلاً تشترك فيما بينها بملامح عدة أولها أن ظهورها وبمختلف أنواعها ارتبط بتغيير نظام الحكم في البلد سواء كان التغيير بانقلاب عسكري أو بغزو واحتلال، وثانيها أن عملها كان إجرامياً انتقامياً ممزوجاً بالتعصب الفكري الطائفي أو الحزبي المبني على فكرة أو نظرية سياسية، وثالثها أن كل تلك الميليشيات بادرت الدولة وأصدرت لها قانوناً في محاولة لشرعنة وجودها وعملها وإضفاء صفة الجهاز الأمني والعسكري عليها لكنها محاولة لا قيمة لها لأن هذه الميليشيات شكلت وعملت خارج مؤسسات الدولة ولأسباب بعيدة عن العمل المؤسسي لأي دولة ثم اختُرع لها قانون يغطي على جرائمها، أما هذه الميليشيات فكانت كما يأتي:
الأولى: ميليشيا الحزب الشيوعي والتي أطلقت على نفسها اسم «المقاومة الشعبية» وقد ظهرت هذه الميليشيا بعد الانقلاب الذي نفذه عبدالكريم قاسم في سنة 1958 وأنهى فيه النظام الملكي في العراق وحوله إلى جمهوري، لم يكن قاسم شيوعياً بل لم يكن صاحب عقيدة سياسية لكن الشيوعيين ساندوه فأطلق أيديهم وارتكبوا المجازر في أماكن متفرقة من العراق وتضاعفت أعداد أفرادها بحجة حماية النظام و»الثورة» ثم حلها الرئيس عبدالكريم قاسم.
الثانية: ميليشيا حزب البعث والتي أطلقت على نفسها اسم «الحرس القومي» وهذه ظهرت مع ثاني انقلاب غير نظام الحكم في العراق وهو انقلاب البعثيين والقوميين على نظام عبدالكريم قاسم سنة 1963 وأيضاً نفذت هذه الميليشيا أعمالاً إجرامية وتصفيات بالجملة بحجة حماية النظام و»الثورة» ثم حلها الرئيس عبدالسلام عارف.
الثالثة: الميليشيات التي دخل بعضها مع الدبابة الأمريكية أثناء الغزو الأمريكي الذي احتل العراق وأطاح بنظام حزب البعث وتشكل بعضها الآخر لاحقاً وأصبحت أعدادها بالعشرات وتحت مسميات مختلفة وفاق إجرامها إجرام سابقاتها من الميليشيات نظراً لطول مدة بقائها وهذه في أغلبها تجمعت تحت اسم «الحشد الشعبي» في عام 2014 وتضاعفت أعداد أفرادها بحجة طرد تنظيم «داعش» والدفاع عن العراق. والملاحظ أن أول تجربتين للميليشيات حلهما النظام الحاكم الذي رعاهما في بداية الأمر لعلمه أن الدولة لا تكون دولة مع وجود الميليشيات فكانت مدتهما قصيرة أما التجربة الثالثة فمازالت قائمة حتى الآن والنظام الحاكم يصر على بقائها ويدافع عنه.
الميليشيات بمختلف أنواعها وتوجهاتها ومرجعياتها تعد عائقاً كبيراً وتحدياً أمام أي توجه حقيقي لبناء دولة مؤسسات، فهي دوماً تقف على النقيض منها فلا يمكن بأي حال من الأحوال الجمع بين دولة الميليشيات ودولة المؤسسات، لذا يستمر البلد بالتنقل من خراب إلى آخر طالما بقيت موجودة على أرضه، كما أن ظهور الميليشيات التي تمارس إرهاب الدولة بشكل مستمر في تاريخ العراق أثر كثيراً على سمعته وسمعة أبنائه في الخارج حتى بعد إنهاء دورها ولذلك يميز المتابع بين عهدين للعراق الحديث، العهد الملكي والعهد الجمهوري، أما استمرار وجود وعمل الميليشيات كما هو حاصل اليوم فهذا الأمر جعل من العراق دولة فاشلة تقف في ذيل قائمة الدول.
إنهاء وجود الميليشيات في العراق أمر شبه مستحيل إذا ترك لرأي الدولة وقرارها دون تدخل خارجي سواء كان تدخلاً مباشراً بعمل عسكري أو غير مباشر من خلال استخدام وسائل الضغط المختلفة، والسبب في ذلك أن أقوى الأحزاب والتيارات السياسية في العراق والتي تشترك في الحكم بشكل فعلي وليس صورياً لها أذرع ميليشياوية تستخدمها للضغط وتصفية الخصوم بل هي ذراعها الفعلي في الحكم.
بقلم: د. فراس الزوبعي