الرصافي وخزينة الدولة

كانت الساعة الواحدة ظهرا في منتصف الثلاثينيات، لما أرسل رئيس وزراء العراق (لعله حكمت سليمان)، شرطي (أبو خيطين) إلى نوري ثابت (صاحب جريدة حبزبوز) يطلب حضوره فورا، ودار بينهم هذا الحوار:

ـ نوري

ـ نعم تفضل يا صاحب الفخامة

ـ انت صديق معروف الرصافي طبعا؟

ـ أنا تلميذه المطيع.

ـ وين هو هسه؟

ـ بالفلوجة (الشاعر معروف الرصافي ترك بغداد سنة 1933 بسبب ضيق الحال، وراح للفلوجة ونزل بضيافة آل عريم الكرام اللي خصصوا له واحد من بيوتهم الجديدة والمبنية حديثا والمطلة على نهر الفرات بجانب جسر الفلوجة الحديد المشابه لجسر الصرافية ببغداد، وما رجع لبغداد إلا في سنة 1941)

ـ شوف يا نوري: اليوم دفعنا كذا دينار من المخصصات السرية للصحافيين اللي جايين من خارج العراق، وأنا أدفعها گلبي تألم لما أدفع فلوس للغرباء عن البلد في حين شاعر البلد مهجور بالفلوجة.

ـ طيب شنو المطلوب مني؟

ـ أول شي أريد منك تروح له للفلوجة حالا.

ـ حاضر

ـ ثاني شي تطلب منه يقبل المقعد الشاغر بمجلس النواب، وإذا ما عجبه خلي بس يوافق ويصير بالمعارضة داخل المجلس. (يذكر أن الرصافي كان عضو بمجلس المبعوثان “مجلس النواب بالدولة العثمانية” لدورتين -يعني مو جديد على النيابة-).

ـ حاضر

ـ ثالث شي أريدك تشوف وضعه بالبيت إذا شفته محتاج فأنا مستعتد أدفع له (…..) دينار إلى أن يأخذ مكانه بالمجلس، لإن ما معقولة ولا من الإنصاف ولا المروءة ندفع للأغراب وشاعرنا اللي يگول:

أنا ابن دجلة معروفا بها أدبي                   وإن يك الماء منها ليس يرويني

قد كنت بلبلها الغريد أنشدها                   أشجى الأناشيد في أشجى التلاحين

فهل من المروءة يا نوري أن ندر الدنانير على الأجانب بينما ابن دجلة منسي بالفلوجة؟!

ـ أنا الآن مسافر للفلوجة حتى أبلغ أوامرك لأستاذنا الرصافي

وفعلا أجر نوري سيارة وأخذ وياه مدير إدارة جريدته حاتم الكرخي ابن الملا عبود، والأستاذ عبد القادر المميز صاحب جريدة أبو حمد، والتقى الرصافي بالفلوجة وهو معدم الحال، وصعد نوري ثابت والرصافي على سطح البيت وبلغه طلب رئيس الوزراء، فكان جواب الرصافي: أما النيابة فأقبلها، وأما دنانير المخصصات السرية فأرفضها رفضا قاطعا، وأفضل أموت جوع ولا أتطفل على خزينة الدولة.

والله ما أدرى على شنو نسولف، على مخصصات “تحسين الحال” اللي تطلع من خزينة الدولة بملايين الدولارات وتروح لجيوب للحفاي الجايعين الأميين اللي فجأة صاروا سياسيين، لو على الأجانب اللي هبطوا على البلد وقرروا يديرون شؤونه بدعوى انهم عراقيين، لو على عقول البلد وخبراتها اللي انطردوا وتهجروا وصاروا منسيين خارج البلد؟!