القصاص أو الحكواتي كما يسميه أهل الشام، أو القصخون كما يسميه البغداديون، كان له مكانة مرموقة في مقاهي ببغداد، لأنه كان يعد من أهم وسائل اللهو والتثقيف عند الناس، فلم تكن دور السينما قد ظهرت، وليس هناك تلفزيون أو راديو، فكان القصاص يجلس في المقهى يلهيهم بالقصص والأساطير ويترزق منهم، أشهر «قصخون» في بغداد كان ملا إبراهيم الموصلي توفي سنة 1890، وبعده جاء ملا خضر الموصلي توفي سنة 1912، ومن القصص الطريفة أنه في إحدى مجالس القصخون هذه كان يروي لهم قصة عنترة فوصل إلى موقف وقع فيه عنترة أسيراً بيد أعدائه فتوقف القاص عند هذا الحد على أن يكمل لهم القصة في اليوم التالي وذهب إلى بيته، لكن أحد رواد المقهى المستمعين للقصة تأثر وحزن على عنترة حزناً شديداً، وفي منتصف الليل استيقظ القصخون على طرقات باب منزله، ففتح الباب وإذا «بالرجال» يقف على أعتاب بابه، قائلاً: خيراً إن شاء الله ماذا تريد؟ فقال له: «الله يخليك فك عنترة من أسره وإلا لن أنام الليل!!»، القصخون أكمل له الجزء المتبقي من القصة وأخرج له عنترة من الأسر، و»الرجال» تشكر منه وذهب إلى بيته ونام!
لا شك في أن القصة مضحكة وتحكي واقعاً من جهل الناس في فترة من فترات الزمان، لكن هل تعلمون أن هذه القصة تتكرر في العراق بعد غزوه واحتلاله في 2003 بين فترة وأخرى، وإذا كان القصاص لا يحفظ أكثر من أربع أو خمس قصص طويلة يعيدها ويكررها مع بعض الزيادات والتغييرات المستمرة ليشعر جمهوره بالجديد، فكذلك يحصل في العراق، وقصة عنترة القديمة أبدلت اليوم بقصة القاعدة و»داعش»، ومع كل حكومة تشكل تعاد هذه القصة، «داعش» تظهر ثم تسيطر ثم تواجه بحرب تتخللها أعمال تهجير وقتل وتنكيل وتمييز على الهوية تطال المدنيين الأبرياء بحجة محاربة الإرهاب، ثم يعلن القضاء عليها، وأنها أصبحت من الماضي، ثم تظهر من جديد وبقوة، حصل هذا أكثر من مرة خلال السنوات السابقة، أما كثير من الناس في العراق فحالهم حال الذي لم يتمكن من النوم إلا بعد أن يطلق له القصاص سراح عنترة، فيذهبون كل أربع سنوات لينتخبوا أعضاء البرلمان وتشكل الحكومة، ويأتون بالأحزاب نفسها وينتظرون منهم الإصلاح وتعديل الأوضاع، ويسمعون من السياسيين الوعود نفسها.
في السابق يمكن أن نعذر ذلك الرجل لأن الأمية منتشرة والناس مصادر المعرفة عندهم محدودة لكن ما بالك بمن يفعلها اليوم! أقول هذا الكلام اليوم بعد أن بدأت التحذيرات تظهر بشأن احتمالية عودة «داعش» إلى الموصل والمناطق الحدودية بين سوريا والعراق وإشغال الناس بهذا الموضوع، بعد أن أعلنوا سحقها بالكامل والانتصار عليها.
بقلم: د. فراس محمد