عندما يتم اختيار ستمائة طالب فقط من أصل مليون ومائتي ألف طالب متقدم للدراسة وفق اختبارات تجرى لهم لاختيار الأكفأ، فاعلم أنك أمام مشروع لصناعة العلماء.
تجربة تعليمية رائدة في تركيا تستحق الوقوف عندها وتأملها علناً نجد فيها علاجاً لمشكلة التعليم المزمنة في دولنا والدول النامية عموماً.
قبل فترة قريبة وعند مشاركتي في مؤتمر علمي في إسطنبول وجهت لي دعوة لزيارة مدارس الفاتح هناك برفقة عدد كبير من المشاركين في المؤتمر، وأبلغنا أن الدعوة تتضمن التعرف على سلسلة مدارس من خلال أحد فروعها تليها وجبة عشاء فاخر، قلت في نفسي سنتجول في بناية مدرسة خالية من طلابها فالوقت ليس وقت دوام ثم سيذهبون بنا إلى أحد المطاعم أو الفنادق، لكن المفاجأة كانت عندما توقف الباص الذي أقلنا أمام بناية ضخمة تضم طوابق عدة فوق الأرض وتحتها بواجهة تشبه واجهات المراكز التجارية، وبمساحة بلغت سبعين ألف متر مربع، ضم المجمع مسجداً كبيراً ومررنا بقاعات وفصول مغلقة تفتح بواسطة بطاقات وأرقام سرية، عدة قاعات للاجتماعات والمؤتمرات تبلغ الطاقة الاستيعابية لكل واحدة منها مئات الأشخاص، ملاعب رياضية متنوعة ومتعددة، ممرات وصالات بديكورات راقية تشبه إلى حد كبير ديكورات مستشفى الملك حمد التعليمي، رجال أمن يحتفظ كل منهم بموقعه، هدوء ونظافة تشعرك بأنك تتجول في مستشفى، مجموعة مطاعم دخلنا أحدها فتفاجأنا بوجود عدد غير قليل من الطلبة يدخل كل طالب لتناول وجبة العشاء من خلال بوابة تشبه بوابة الدخول إلى محطة المترو تفتح له بعد أن يضع بصمته على جهاز عندها، علمنا وقتها أن المدارس تضم أقساماً داخلية للمبيت وهناك أنشطة ليلية للطلبة، كما علمنا أن المبنى يضم مدارس بمختلف المستويات من الروضة وحتى الثانوية، وأن الشخص الذي استقبلنا على الباب وتكلف عملية الشرح والتعريف هو المدير العام لمجمع المدارس هذا، بعد ذلك توجهنا للتعرف على قاعات الدراسة التي لا تزيد الطاقة الاستيعابية لكل منها على عشرين طالباً، وتضم جميعها تجهيزات تتناسب وطبيعة المادة التي تدرس فيه، فقاعات تدريس التاريخ مثلاً تضم مجسمات لآثار وخرائط، كما وضعت سبورة ذكية في كل قاعة من القاعات، وهذه ذكرتني بجامعة في إحدى الدول العربية التي تصدرت الفساد اشترت عدداً كبيراً منها قبل أربع سنوات ووضعتها في مخازنها إلى يومنا هذا لعدم معرفتهم بكيفية تشغيلها، فالموضوع لا يعني لمن اشتراها أكثر من صفقة حصل على نسبته منها.
ولأني لم أتكلم عن جوهر هذه التجربة التي نفثت الحركة والحيوية في نظام التعليم، وأسست لتعليم عالي الجودة، وقد دعتني الضرورة أن أوضح صورتها عسى أن تلفت عناية القائمين على التعليم والمستثمرين فيه فسيكون للحديث بقية.
بقلم: د. فراس الزوبعي