في أيام الدراسة الجامعية كان لي زملاء من اليمن، ذات مرة جرنا الحديث عن المناطق الوعرة والنائية في اليمن، فحدثني أحدهم عن الحالة الاجتماعية لبعض هذه المناطق وكيف أن الجهل والتعنت مسيطر على الحياة فيها، ومن بين الشواهد والأمثلة التي ساقها مشكلة حصلت بين أفراد من قريتين متجاورتين، وكان في كل قرية مدرسة يعمل فيها معلم واحد جاءهم من إحدى الدول العربية، هو المعلم والمدير والموظف الإداري، والمدرسة تقوم عليه بمفرده، إن غاب أو مرض تعطلت المدرسة، عندما تطورت المشكلة بين هؤلاء الأفراد توجه مجموعة منهم وقتلوا معلم القرية الأخرى، مع أنه لا ينتمي لها وليس من اليمن أصلاً، أما أهل القرية التي قتل معلمهم فخرجوا طلباً للثأر وأقسموا ألا يعودوا لديارهم قبل أن يقتلوا معلم القرية التي قتل رجالها معلمهم، وهو الآخر لا ينتمي لتلك القرية وليس من اليمن، وبعد شد وجذب تمكن المعلم من إقناع أهل القرية أن يهربوه إلى صنعاء ليعود إلى بلاده سالماً خاسراً زميله.
عندما سمعت هذه القصة تلقيتها على سبيل التندر بوقائع طريفة مؤلمة، لكن لم يخطر في بالي وقتها أني سأشاهدها وأعيش أحداثها على نطاق عالمي واسع، لأن أبطالها هذه المرة ليسوا قرويين يعيشون في أقصى جبال اليمن، وإنما أبطالها يسمون أنفسهم دولاً عظمى، نصبت نفسها مجلساً لإدارة هذا العالم، لتدير شؤونه وعلاقتها فيما بينها بالطريقة ذاتها التي تصرف فيها أولئك الغارقون في الجهل والتعنت، نعم هذا ما حدث بالفعل ولست وحدي من يعيش أحداثه بل كلنا يعيش ذلك لأن دولنا أصبحت بمثابة ذلك المعلم الوافد، وإليكم هذا الواقع.
أمريكا تغزو أفغانستان وتحتلها، بعدما كان الاتحاد السوفيتي قد غزاها من قبل وخرج منها مرغماً، فتبقى أمريكا أربع عشرة سنة فيها، غزت خلالها العراق واحتلته، يقرر بعدها أوباما أن يخرج من أفغانستان لينشغل بالبيت الأمريكي، لكن تأتي روسيا لتطلق طائراتها وصواريخها وتوسع قاعدتها في سوريا، فيظهر أوباما فجأة ويتراجع عن قراره سحب قواته من أفغانستان ويقرر تمديد بقائها إلى ما بعد عام 2016، فتستشيط روسيا غضباً لهذا القرار، وتقول أمريكا ترد على حملتنا في سوريا ببقائها في أفغانستان وهي دولة محتلة جربت الخيار العسكري وفشلت فيه والنتيجة المزيد من الإرهابيين والمزيد من المساحات التي تزرع بالمخدرات، على أساس أن الحملة الروسية في سوريا هي حملة تطعيم ضد شلل الأطفال وليست حملة عسكرية تنشر القتل والدمار، وحقيقة الحال خلاف على المصالح بين أمريكا وروسيا، لم يتقابلا وجهاً لوجه لحله، فإما أن يتحاورا أو يقتل أحدهما الآخر، لكنهما جاءا إلى بلاد المسلمين فضرب كل منهما دولة واحتلها وطالب الآخر بالابتعاد عن مصالحه، أي أن كل واحد قتل معلماً في مدرسة القرية الأخرى، وإن شئتم فقولوا قتل المعلم وهدم المدرسة وأحرق القرية، والمصيبة الأكبر أنها ليست قراهم أصلاً.
أتدرون؟ لقد كان المعلم الناجي أسعد حظاً منا، عندما حصل على حماية أحد الأطراف وخرج من الجحيم، أما نحن فلم نجد منقذاً.
بقلم: د. فراس الزوبعي