تتوالى الأحداث والمصائب في العراق، ذلك البلد الذي يأكل أبنائه على مر السنين، ومع كل حدث تختلط المشاعر بين فخر وحزن وامتعاض وغيرها.
رحل يوم أمس قائد من قادة العراق العسكريين، الفريق أول ركن أياد فتيح خليفة الراوي، قائد الحرس الجمهوري ورئيس أركان الجيش العراقي الأسبق ومناصب أخرى تلتها وأخرى ميدانية سبقتها، ومع رحيله تذكرت قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
وخذْ لكَ زادينِ: من سيرة ومن عملٍ صالحٍ يدخرَ
وكن في الطريقِ عفيفَ الخُطى شريفَ السَّماعِ، كريمَ النظر
ولا تخْلُ من عملٍ فوقَه تَعشْ غيرَ عَبْدٍ، ولا مُحتَقَر
وكن رجلاً إن أتوا بعده يقولون: مرَّ وهذا الأثرْ
فهذه الحياة تنقضي ولاشك، وليس من بني البشر من يخلد فيها وكل إنسان له أجل محتوم لا يقدم ولا يؤخر، فزمان ومكان نهاية أي إنسان قدرها الله وكتبها، لكن ما يبقى من البشر سيرهم وتاريخهم، فإن لم يتركوا أثرهم وبصمتهم غابت سيرتهم بغيابهم وإن تركوا ذلك الأثر دام ذكرهم بحجم أثرهم، وقد سطر الراحل في سيرته تاريخ بطولات مشرف، خط أول سطوره في فلسطين عام 1967 و 1973 وانتقل بصفحاته إلى الحرب العراقية الإيرانية تلك الحرب التي أخذت ثمان سنوات من عمر العراقيين لصد العدوان الإيراني وريحه الصفراء، فسطر خلالها أروع صفحات البطولة والبسالة ولمع اسمه خلال سنواتها الثمان في معارك عدة حصل خلالها على أوسمة حتى لم يعد في جسده مكان لحملها، كل وسام يقف خلفه موقف وبطولة، ولم يكتف بطبع بصمته وترك أثره على أرض العراق فقط، لكنه حفره في ذاكرة أبناء وطنه وتعداه ليحفره في ذاكرة أعدائه الحاقدين على مر العصور، فلا تكاد تذكر الفاو إلا ويذكر بطلها ومحررها، لقد عاش هذا البطل حياة عفيفة الخطى كما نصح شوقي، مليئة بأعمال وبطولات حتى وقع في أسر الغزاة الأمريكان عام 2003 الذين سلموه لحلفائهم الإيرانيين، ربما كنوع من الاعتراف بالجميل لقاء خدماتهم التي قدموها وتسهيلهم لاحتلال العراق، لتبدأ قصة أسر دامت خمس عشرة سنة، اجتهد خلالها المحتل الأمريكي والإيراني من خلال أذنابه في العراق في الإساءة لهذا القائد المهني، وتعمدوا إهمال حالته الصحية حتى أصابته جلطة دماغية نتيجة سوء المعاملة، وحسبه أنه في ساحة حرب ومعركة لم تنته، فترجل الفارس من صهوة جواده معلنا نهاية حربه.
والحقيقة لم يكن هناك ما هو غير متوقع أو لم نكن ننتظر نتيجة مختلفة من النظام الإيراني وذيله النظام العراقي الحالي، فالعدل لا يأتي من ظالم، والشرف لا يأتي من خسيس، والجبان لا يعرف قيمة البطل لينزله منزلته، وهذا هو ديدن الصغار، لقد أرادوا إذلاله فأذلهم مرتين، مرة في حياته عندما مرغ أنفوهم وأنوف ذيلوهم وهم يعتدون على العراق في الثمانينيات ومرة بموته عندما رأى العراقيون كيف تعاملوا مع بطل من أبطالهم، فأرادوا قتله بطريقة يتشفى بها أمثالهم فكانت السنوات الخمس عشرة التي قضاها في الأسر وموته إهانة لهم، فقد أظهرت خستهم وصغرهم أمام العراقيين أولا والعالم ثانيا.
أبا معن.. نم قرير العين.. فقد عشت بطلا ومت بطلا، وليس لمثلك إلا أن يموت في ساحة معركة على يد أعدائه وقد قدر الله لكم ذلك.