بفترة من فترات حكم السلطان عبد الحميد مرت الدولة بضائقة مالية والرواتب ما كانت توصل بآخر الشهر وما تدفعها الدولة إلا بعد صدور إرادة ملكية، مثلا تصدر الإرادة الملكية بدفع الراتب بشهر آب سنة 1900، وإذا بالموظفين ما مستلمين رواتبهم من شهر كانون الثاني، وبسبب هذا الوضع صار سوء الإدارة، فهذا شرطي وذاك كاتب وذاك معلم گاعدين وينتظرون الإرادة الملكية، وهنا بدت الرشوة والفوضى تنتشر وغاب العدل.. وكان أكو كاتب بدائرة المالية بالگُرنة اسمه عبد المجيد أفندي يشتغل من الصبح للمغرب كل يوم وماكو قبض، بس وضعه أحسن من غيره لإنه كان يعيش ببيت أبوه مأمور البريد والبرق ويگدر يصبر على الراتب بس جماعته الموظفين الصغار وضعهم يختلف يتعينون ويمشون بيهم كم شهر ويتأخر الراتب ويستقيلون وراها، صاحبنا الكاتب جمع الموظفين الصغار اللي وياه وحرضهم على كتابة العرايض والشكوى وقدموها لوالي البصرة ومتصرف العممارة ودفتردار البصرة وحتى لوزير المالية العثماني باسطنبول… والنتيجة الحفظ بسلة الزبالة.. إلى أن بيوم من الأيام أبو صاحبنا الكاتب راح للبصرة بمهمة رسمية وبما أنه مدير البريد والبرق ومكانه مهم، كلف ابنه عبد المجيد أفندي يصير بمكانه ويمشي أعمال البريد والبرق إلى أن يرجع لإن الولد يعرف يستخدم الآلة.. الولد شبعان ظلم وقهر من تأخر الراتب عليه وعلى جماعته والعرايض والشكاوى ما تفيد، فاستغل الفرصة وراح شرب إلى أن وصل درجة السكر ودز برقية مباشرة لوزير المالية بالاستانة كتب بيها:
استانبول – ماليه ناظرنه
موقوف معاشمز كبي مفقود اوله سك سن، جنتده كي شيطان كبي مطر وداوله سك سن.
قورنه مدينه مال كاتبي
عبد المجيد
وترجمتها:
الإستانة – وزير المالية
لتفقد أنت كراتبنا المفقود.. ولتطرد من الجنة كطرد الشياطين منها.
كاتب مالية مدينة القرنة
عبد المجيد
وراها صحى الأفندي وتذكر برقيته، فگعد ينتظر أمر إلقاء القبض عليه على الجسارة اللي صدرت منه، وإذا ببرقية توصل من وزير المالية إلى متصرفية العمارة تقضي بدفع جميع رواتب الموظفين المتراكمة…
صار هذا لإن وزير المالية كان عادل ومنصف، لكن الأهم من عدالة الوزير هو جرأة المطالبة بالحق حتى لو كان عند من يخوف.. ويبقى السؤال المهم هو احنا ليش ما نطالب بحقنا بأي وسيلة ممكن تحققه وبقوة وجرأة إلا بعد ما نشبع إهانة ومذلة وقهر وظلم وحتى بعد ما نشبع ظلم ما نگدر نصحح الأوضاع العوجة إلا نصير بحالة عقلية مو طبيعية مثل عبد المجيد أفندي إلا سكر وفقد عقله يالله طالب بقوة أو نفقد عزيز لا سمح الله حتى تفلت أعصابنا.. بينما الغربيين يحطون أصابعهم بعين أكبر واحد إذا تجاوز على حقوقهم لا يحتاجون بطل ولا موت أحد منهم؟!