جلس أحد المحررين في جريدة (….) في تركيا أيام السلطان عبدالحميد، فوقف بجانبه رئيس التحرير وسأله ماذا تكتب؟ قال: أكتب مقالاً، ما عنوانه؟ فأجاب: عنوانه “كم سنة تعيش شجرة التوت؟” فقال رئيس التحرير وهل تريد بهذا المقال غلق جريدتنا وإدخالنا السجن وقطع أرزاقنا؟! فقال المحرر: هذا بحث علمي وليس مقالاً سياسياً! قال: بل هو مقال سياسي بحت! لأنك عندما تكتب عن شجرة التوت سيذهب ذهن القارئ إلى الخشب، وعندما يتذكر الخشب سيخطر على باله الخشب الذي صنع منه الجسر القديم “أون قباني كبروسي”، وعندما يتصور الجسر يتوارد إلى فكره أن أخشابه بالية متفسخة، وهذا نقد صريح لأمين العاصمة “شهر أميني” وسعادة الأمين هو من منتسبي “المابين الهمايوني” -ديوان السلطان- وهنا الطامة الكبرى.. لا.. لا أرجوك غير الموضوع، قال حسناً سأكتب عن صفيحة النفط كم ساحة تشغل؟ فقال رئيس التحرير: هذي كارثة “تهدم بيوتنا”! لماذا؟ لأن هذا طعن صريح، فإذا بينت عدد الساعات التي تشغلها صفيحة النفط الواحدة سيذهب ذهن القارئ إلى فوانيس البلدية، وعندما يتصورها القارئ يتذكر أنها تنطفئ بعد العشاء مباشرة، ومن هنا يتوصل القراء إلى أن موظفي البلدية يختلسون من النفط المقنن صرفه على الفوانيس، هذا يعني أن أمين العاصمة يغض الطرف عن الاختلاس، ولما كان أمين العاصمة من منتسبي المابين الهمايوني… إلخ القصة، أرجوك ابحث عن موضوع آخر..
كان ذلك جزءاً من مقال نشر في جريدة “جون ترك” بباريس نواة جمعية الاتحاد والترقي أواخر القرن التاسع عشر ينتقد كاتبه المراقبة الشديدة على الصحف في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، والمقال جزء من ابتكارات الجريدة لنشر الدعاية ضد السلطان عبدالحميد في أرجاء الدولة العثمانية، وكانت ضمن حملة نخر في كيان الدولة واختراع أدوية علاج “الرجل المريض”، لقد أظهر المقال مخيلة الكاتب الواسعة، وواضح لمن يقرؤونه أنه مقال تهكمي، لكن ما بالكم بأناس في المجتمع يفكرون ويتعاملون مع بعض ما يكتب ويقال بذلك المنهج الذي دار في عقل رئيس التحرير المفترض في المقال أعلاه، فلا تذكر حدثاً معيناً أو مثلاً معيناً إلا وتحامل عليك المقابل مفترضاً أنك تقصد جهة أو شخصاً ليبدأ بالدفاع عنه، أقولها عن تجربة ودراية وقد وجدت ذلك واقعاً في بعض المجتمعات العربية ووجدت أقوى صوره في المجتمعات التي حصل فيها انقسام، لا سيما تلك التي لعبت فيها أصابع إيران، فهذه الظاهرة تتجلى بأقوى صورها، فتجد المقابل ينتقد سلوكيات أحزاب أو حكومات تابعة لإيران ويشتكي من أفعالهم لكنك إذا ما انتقدت عشر ما ينتقد ثار في وجهك متهماً إياك بإثارة النعرات الطائفية وتمزيق المجتمع مع أنك لم تتطرق في حديثك لموضوع ديني، لكنه يفسرها على طريقة (كم ستعيش شجرة التوت؟)، وكذلك الحال بالنسبة للطرف الذي يقابله -ولا أحد بريء- من هذه الظاهرة، والواقع أن أكبر نجاح حققته إيران هو حفر الخنادق في الدول التي امتدت يدها إليها ليجلس بعد ذلك كل طرف في خندقه.
التخندق والتحزب لن يكون في يوم من الأيام حلاً لمشكلة لأنه مشكلة بحد ذاته، وما لم تتجاوز المجتمعات هذا التخندق فلن يعيش أبناؤها ولا أبناؤهم في المستقبل في سلام.
بقلم: د. فراس الزوبعي