اُنج سَعد فقد هلك سَعيد

مثل عربي شاع واشتهر منذ زمن بعيد.. سعد وسعيد أخوان خرجا طلباً لبعض الأعداء، فغلب الحماس على سعيد ومن معه فسبقوا سعد في الخروج ولم يعلموا أن الأعداء قد نصبوا لهم كميناً ليقتلوهم؛ إلا واحداً منهم فرَّ هارباً ليقابل سعد في الطريق ويقول له جملة واحدة «اُنج سعد فقد هلك سعيد» وبالفعل فقد هرب سعد مع الناجي.
وهكذا المجتمعات إذا عمت فيها الفوضى وتسيدها الغوغاء يهجرها خيارها وتتغير ملامحها.
سعد وسعيد أستاذان جمعني بهما العمل في إحدى الجامعات ببغداد قبل الاحتلال، وعندما احتلت أمريكا العراق أطلقت يد اللصوص والغوغاء فتسيدوا الموقف، وقتها لم يتوقع سعد وسعيد المتحمسان للاستمرار بعملهما أن انتماءهما السياسي المحسوب على النظام السابق سيكون سبباً في إيذائهما، خصوصاً وأنهما تجمعهما بمن جاءت بهم أمريكا طائفة واحدة؛ ذات يوم دخل الدكتور سعيد إلى الجامعة بكامل أناقته فتفاجأ بعدد من طلبة الجامعة من الغوغاء وقد أحاطوا به وانهالوا عليه «سطرات» و «كفخات» حتى أسالوا دمه ومزقوا ثيابه، كنت وقتها داخل الجامعة وحينما سمعت بالخبر وقفت مع زميلين آخرين نتحدث في الموضوع فمرَ أمامنا الدكتور سعد خائفاً مرتبكاً من هول ما حصل لصديقه الحميم، عندها وبعفوية تامة ناديته بصوت منخفض لم يسمعه «اُنج سعد فقد هلك سعيد».. بعد ذلك غادر الدكتور سعيد البلاد وتبعه الدكتور سعد.
الأدهى من ذلك أن القضية لم تتوقف عند تصفية وتهجير من له نشاط سياسي أيام النظام السابق، فالأحداث تسارعت لتفتح الميليشيات صفحة جديدة في كتاب جرائمها وينتقلوا لتصفية العلماء والأساتذة على أساس طائفي ويغيروا خلال سنوات وجه المجتمع وقادته. الطريف في الأمر أنه لم يخطر في بالي وقتها أن المثل لم ينطبق على زميليّ وحسب بل انطبق عليّ أيضاً فبعد ثلاث سنوات نجوت من محاولة اغتيال وأصبحت بندائي الذي لم يسمعه الدكتور سعد مكان صاحبي الذي حذّر سعد الأول وقال قولته المأثورة «اُنج سعد فقد هلك سعيد».
يخطئ من يظن أن أثر الغوغاء في البحرين يقف عند إضاعة وقت الناس بغلق طريق هنا، وإشعال نار هناك، بل الأمر يتعدى إلى أكثر من ذلك فهو يدفع برأس المال أولاً إلى الهجرة والخروج من البلد بحثاً عن الاستقرار يتبعه بعد ذلك العقول والخبرات والكفاءات وأهل الرأي ليحل محلهم ويملأ الفراغ الذي خلفوه مجموعة من الغوغاء هدفهم الدمار والخراب، وبذلك تتغير طبيعة المجتمع وتركيبته وتضيع إنجازات وصروح حققها وبناها رجال على مر الزمان. ولعل أوضح مثال وشاهد على ذلك ما حصل في العراق فبعد انتشار الغوغاء وتمكنهم ترك التجار والصناعيون البلد مهاجرين إلى بلدان يتمكنون فيها من مزاولة نشاطهم وتنمية أموالهم، ثم تبعهم الأطباء وأساتذة الجامعات والمهندسون وغيرهم من أصحاب الخبرة والكفاءة فأصبحت المصانع والمشافي والجامعات العريقة خاوية على عروشها خالية من خبرائها.
أفلا يكفي ذلك مثالاً وشاهداً على أثر المخربين والغوغاء في المجتمع، وقديماً قالت العرب السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه.

بقلم: د. فراس الزوبعي