فينيتو

محاولة تقمص شخصية الآخر وثقافته لا يمكن أن توصف بحال من الأحوال بالرقي الحضاري.
قبل سنين عديدة وتحديداً على أرض معرض بغداد الدولي الذي يستضيف في نوفمبر من كل عام مجموعة كبيرة من الشركات العالمية الكبيرة لتعرض أفضل منتجاتها، دخل مجموعة من الصبية والشباب الصغار إلى الجناح الإيطالي في المعرض ووقفوا عند إحدى الشركات المصنعة للمكائن الثقيلة، وفي القاطع المخصص للشركة شخص يجلس على كرسيه ملامحه عربية تبين فيما بعد أنه عراقي، ويقف آخر أبيض البشرة ذو شعر أشقر طويل مربوط إلى الخلف على شكل ذيل حصان، مهمته التعريف بالشركة ومنتجاتها من خلال تقديم المنشورات والمواد الدعائية، توجه الشباب نحوه متوسلين إليه يطلبون شيئاً من هذه المواد والمنشورات الدعائية بدافع الفضول ليس إلا، ولعلم الرجل أن ليس لهؤلاء مصلحة واهتمام بنشاط الشركة رفض إعطائهم أياً من هذه المواد والمطبوعات، الصبية يتوسلون وينادونه «مستر.. مستر» والرجل يلوح لهم بكلتا يديه ويردد كلمة واحدة «فينيتو.. فينيتو» وهي كلمة إيطالية تعني نفدت أو لم يتبق شيء، وبعد أن ضجّ المكان بصوت المتوسلين بالـ «مستر» وهو يكرر «فينيتو» ضجر الشخص العراقي وضاق بهم ذرعاً فخاطب زميله «المستر» بقوله: «يا معود فاضل.. عطهم خلي يروحون»، فكانت المفاجأة..المستر الإيطالي ليس أكثر من موظف محلي استعانت به الشركة بأجور يومية، لكنه اقتنص الفرصة وجعل منها مناسبة لنبذ ثقافته فتقمص بمظهره وباللغة التي أتقن منها كلمة واحدة وهي «فينيتو» الشخصية الإيطالية.
تذكرت هذه الحادثة هذه الأيام وأنا أرى استعداد الأسواق وانشغال بعض الشباب بعيد «الفالنتين» أو عيد الحب أو يوم القديسين، وهو عيد تعود تسميته لقديسين حملا الاسم ذاته «فالنتين» قتلا في القرن الثالث، ويتم تكريمهما في الرابع عشر من فبراير من كل عام، وفي القرون الوسطى ربط الأدب الإنجليزي هذه المناسبة بالحب الرومانسي، وصارت الدول الناطقة بالإنجليزية تحتفل به في هذا الإطار، ولا أعرف كيف دخل هذا العيد إلى عالمنا العربي في السنوات الأخيرة بعد أن لم نكن في يوم من الأيام معنيين به.
إن الثقافة العربية والإسلامية تعتمد مجموعة من القيم التي تستمد أصلاً من العقيدة الإسلامية، هذه القيم تشكل لنا ثقافتنا وواجب علينا صيانتها والحفاظ عليها، والهرولة للمشاركة بهذه الأعياد ليست إلا محاولة للالتصاق بثقافة دخيلة لن تغير من واقعنا شيء ولن تعود علينا إلا بتشويه عاداتنا وثقافتنا، والرقي الحضاري لا يمكن أن يتحقق بالذوبان في شخصية الآخر وثقافته، كما أن لهذه الأعياد والمناسبات جانب اقتصادي استهلاكي لا يتعدى دورنا فيه دور المستهلك.
تذكروا دوماً أن «فاضل» وبالرغم من كل محاولاته وطيرانه وانقلابه في الهواء لم يصبح «رفايلوا» أو «رفيرا» بل بقي «فاضل» لكن بثوب بعيد عنا.

بقلم: د. فراس الزوبعي