ليست دول الخليج العربي بمنأى عن الصراع الدائر في العراق وسوريا، ليس في الصراع الحالي فحسب، بل في كل الاضطرابات والحروب التي حدثت في السابق إذ كان تأثرها واضحا، وفي الحرب العراقية الإيرانية خير مثال وشاهد، لكن الصراع الحالي كان وقعه أكبر وآثاره أشد على دول الخليج العربي وبنسب متفاوتة فيما بينها، وقد اتضح هذا الأثر في جوانب عدة أهمها الجانب الأمني والاقتصادي والاجتماعي، ولا شك فإنها آثار سلبية، لكن من بين هذه السلبيات تظهر بعض الإيجابيات التي انعكست على المجتمع والدولة، وهنا ترد مجموعة أسئلة، أهمها:
لماذا كان للصراع في العراق وسوريا أثر كبير على دول الخليج العربي بشكل واضح وكبير؟ ومن هو محور هذا الصراع ومحركه الأساسي؟ وما هو الأثر الأمني لهذا الصراع على دول الخليج العربي، وما هو الأثر الاقتصادي، والأثر الاجتماعي؟ وكيف تبرز في خضم كل هذه المشكلات جوانب إيجابية لهذه الآثار.
لقد وقع المحتل الأمريكي في خطأ كبير وجسيم عندما قضى على الدولة عند احتلال العراق، فحل المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية ووزارة الإعلام وكثير من مؤسسات الدولة التي بدونها لا يمكن أن تسمى الدولة دولة، ومع القضاء على الدولة بقي المجتمع فانفرط عقده وتوزعت الولاءات والانتماءات والكيانات على جهات مختلفة ومتقاطعة فكريا ودينيا وإيديولوجيا، كانت أمريكا تريد تجربة نظرية “الفوضى الخلاقة” وإن شئت فقل “الهدامة” وفي هذه النقطة يظهر الاختلاف الكبير بين المحتل الأمريكي والمحتل البريطاني الذي سبقه بتسعين سنة تقريبا، ومع أن كلاهما احتلال بغيض، لكن المحتل البريطاني تحمل مسؤولياته تجاه البلد المحتل وعمل على الحفاظ على مؤسسات الدولة العثمانية بل طورها، فأصبح ضباط الجيش العثماني العراقيين قادة للدولة الحديثة في العراق التي كانت وقتها المملكة العراقية، أما أمريكا فبعد أن عملت عكس ذلك ودمرت مؤسسات عمرها عشرات السنين عادت لتبنيها باللصوص والمجرمين والطائفيين، ونتيجة فعلها هذا فأن العراق لم يعد دولة بالمعنى السياسي للدولة وإنما مجموعة كيانات وهذا خلل كبير حصل في الأمة كما أن الحالة في سوريا مقاربة مع وجود الحكم المركزي، لكن في المحصلة النهائية لا يوجد هناك طرف واحد يحكم في كلا البلدين ولا يمكن لأحد أن يدعي ذلك، والأهم من ذلك كله أنه لم يعد هناك وجود حقيقي لبلد اسمه العراق وآخر اسمه سوريا بحدودهما المعروفة، فهذه الحدود موجودة فقط في مكاتب وزراء الخارجية لكلا البلدين أما على الأرض فالخارطة مختلفة تماما ومتغيرة أيضا، كما أن الأرض أصبحت ساحة لتصفية الحسابات تنفذ عليها مشروعات لدول أخرى لا علاقة لها بالبلدين، ولا شك أن هذا الحال بهذه الصورة يعد سببا مهما في كون أثر الصراع جاء شديدا ومختلفا على دول الخليج، لكنه ليس السبب الوحيد فهناك أسباب أخرى منها أن أرض العراق وسوريا فيها أكثر من لاعب دولي ليست دول الخليج العربي واحدا منهم، فالدول الستة لم يدخل أيا منها لاعبا أساسيا مباشرا في هذا الصراع، كما أنها لا تملك استراتيجية بعيدة الأمد واضحة الأهداف في العراق وسوريا واختارت أن لا تتدخل على عكس الأطراف الأخرى التي لها استراتيجيات بعيدة بما فيها تنظيم الدولة “داعش” الذي له تكتيكات آنية ويجيد التعامل مع المتغيرات لصالحه، هذه الدول والمنظمات تشارك في عملية تحول استراتيجي كبيرة في العالم، لم تحدث منذ الحرب العالمية الأولى، في حين تبتعد دول الخليج عنها، هذا بالإضافة إلى أن دول الخليج العربي لها أهداف مختلفة، هذه الأمور بمجموعها تجعل أثر الصراع مختلفا هذه المرة على دول الخليج العربي.
أما محور هذا الصراع ولاعبه الرئيس فهي إيران التي وجدت في احتلال العراق فرصة ثمينة لابتلاعه والسير بمشروعها الحالم بإعادة تشكيل امبراطورية فارس، فاستخدمت كل ميليشياتها وعملائها الذين احتضنتهم سنين طويلة لهذا الغرض، ولتحقق أهدافها أثارت الفوضى ونشرت القتل والدمار والتهجير وقدمت المساعدة لأمريكا بشتى أنواعها، وراهنت على الصراع الطائفي ونجحت فيه إلى حد كبير، وهنا لابد من الإشارة إلى أن إيران تدير هذا الصراع وعينها على محيط العراق ومنه دول الخليج العربي لا سيما الكويت والبحرين وأجزاء من المملكة العربية السعودية وبالتالي فإن إدارتها لهذا الصراع جاءت بطريقة تخدم توجهاتها مع دول الخليج العربي، وعليه لا بد أن تكون لهذا الصراع آثاره على دول الخليج، وبعد سنوات من إدارة الصراع في العراق حصل ما سمي بالربيع العربي واشتعلت النار في سوريا التي كانت إيران حاضرة فيها من قبل وجاهزة لأخذ زمام قيادة الصراع هناك أيضا، فتوسع نشاطها وأصبح خط الصراع أطول من ذي قبل.
هذا الصراع أول آثاره على دول الخليج العربي هو الأثر الأمني، فالعراق الذي كان درعها على الجبهة الشرقة حتى بعد أحداث غزو الكويت وفرض الحصار عليه، أصبح اليوم ممزقا يمر بمرحلة تفكك وتصدع وانقسامات ولا يقوى على صد الخطر الفارسي عن نفسه فضلا عن قدرته على صد الخطر عن دول الخليج العربي، وبات بوضعه الجديد يشكل خطرا على دول الخليج العربي، وهذا الخطر نابع من جملة أمور أهمها أنه تحول من دولة مؤسسات إلى دولة ميليشيات فأصبح مثالا لمفهوم الدولة الفاشلة حتى أن آخر دراسة في هذا الجانب خلصت إلى أن العراق احتل المركز الثاني في الدول الفاشلة في حين تصدر المركز الأول الصومال التي لا يوجد أفشل منها في العالم أما العراق فلا يوجد أفشل منه إلا الصومال وهي الدولة الوحيدة التي يعد العراق متقدما عليها، وانعكاسات هذا الفشل تؤثر سلبا على أمن واستقرار دول الخليج العربي.
كذلك فقد تحول العراق إلى أرض خصبة جاذبة وحاضنة ومفرخة للجماعات المسلحة القادمة من خارج الحدود والتي يصنفها العالم منظمات إرهابية كتنظيم القاعدة في السابق وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” حاليا، وعشرات الميليشيات الشيعية التي تمارس الإرهاب تحت ظل وحماية الحكومة ودعمها وتمويلها، وكل هؤلاء يجدون في دول الخليج أهدافا مشروعة لعملياتهم فهم يعادون حاكمها وشعوبها علنا، يضاف إلى ذلك أن المشروع الإيراني اتخذ من العراق منطلقا له، ولا شك أن هدف إيران إسقاط أنظمة الحكم في دول الخليج والسيطرة عليها، كما أعلن أتباعها أكثر من مرة في مملكة البحرين، ومن هرب منهم من دولة الكويت إلى لندن، وأخيرا التمدد الشيعي الذي انطلق من العراق أيضا وأخذ يتوسع في أكثر من بقعة وضاعف نشاطه في دول الخليج العربي، كل هذه أمور تشكل الخطر الأمني على دول الخليج والتي بات أثرها واضحا ولها فعاليات على أرض الواقع ففي المملكة العربية السعودية بدأ أتباع إيران بالتململ في المنطقة الشرقية من المملكة مستغلين أوضاع الصراع في العراق وسوريا، وكذلك الحال في دولة الكويت، أما في مملكة البحرين فكان الوضع أشد تعقيدا عندما حاول أتباع إيران بتنفيذ انقلاب عام 2011 تحت عنوان الحراك السياسي والمظلومية الزائفة، ولم يجرؤوا على هذه الفعلة لولا أنهم شعروا بالاستقواء بعد تمكن إيران من احتلال العراق، وحتى بعد أن فشل انقلابهم لا زالت العصابة الحاكمة في بغداد تعلن عن دعمها المتواصل لجموع الغوغاء التابعين لإيران في البحرين وتقدم لهم التدريب عندما يسافرون إلى العراق بحجة أداء مراسم الزيارة، وأكثر من ذلك فهي ترسل لهم الأسلحة عبر البحر وقد ألقت السلطات الأمنية في البحرين القبض على زورق محمل بالأسلحة قادم من العراق إلى البحرين، والحال في دولة الكويت لا يختلف كثيرا عن الحال في مملكة البحرين، فقد اكتشف السلطات الأمنية هناك شبكة إرهابية تابعة لإيران تخزن أسلحة بكميات كبيرة تحت الأرض، ولا شك أن هذه الاحداث أثرت على الجانب الأمني في دول الخليج العربي وجاءت كلها عقب الصراع في العراق وسوريا ومرتبطة به.
اما الأثر الاقتصادي فهو كبير وخطير وقد بدأت إرهاصاته عند بداية اندلاع الصراع في العراق وتغير مشهده الذي أربك دول الخليج التي لها حدود برية معه وبدأت تضع في حساباتها تكلفة تأمين حدودها مع العراق، مرة من تنظيم القاعدة وخلفه “داعش” وتارة أخرى من الميليشيات الشيعية التي تجاوزت التهديد إلى القيام بعمليات عسكرية كتلك التي حصلت باتجاه الكويت عندما أطلقت إحدى الميليشيات المرتبطة بإيران صواريخها التي وقعت في أرض الكويت، كذلك فإن استمرار الصراع يجعل دول الخليج مشغولة بنفسها الأمر الذي يؤثر على برامجها الداعمة لبعض الدول العربية مثل مصر ولبنان والأردن، بالإضافة إلى أن دول الخليج العربي لم تعد قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية إلى أراضيها كما كانت في السابق بسبب الصراع الدائر في المنطقة كونها أصبحت منطقة غير مستقرة مع أن دول الخليج لا تشهد هذا الصراع، الأمر الذي كبدها بعض الخسائر نتيجة تراجع الاستثمارات الأجنبية، وما زاد الطين بلة تراجع أسعار النفط، وقد صدر تصريح عن بنك الكويت الوطني في وقت سابق أشار إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر في دول مجلس التعاون شهد تراجعاً للعام الخامس على التوالي خلال العام 2013، وذلك وفقاً لتقرير الاستثمارات العالمية السنوي الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) للعام 2014، حيث تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في دول المجلس من 28 مليار دولار في العام 2012 ليصل إلى 24 مليار دولار العام الماضي 2013، بتراجع قدره 14.6%، وجاء هذا التراجع في قيمة الاستثمارات في الوقت الذي يشهد الاستثمار الأجنبي المباشر عالمياً تقدما.
وإذا تفاقمت الاثار الاقتصادية عن وضعها الحالي فستقابل بتذمر شعبي وهذا له تبعات غير محمودة على دول الخليج العربي.
أما الآثار الاجتماعية فهي الأخطر لأن الصراع الدائر في العراق وسوريا أدى إلى الاصطفافات الشعبية داخل دول الخليج، فمشاهد العنف والقتل والتفجير والتهجير أدت إلى تكتلات مع هذا الفريق أو ذاك خصوصا وأن الصراح اخذ شكلا طائفيا وأن التنوع الطائفي واقع في دول الخليج العربي، والنتيجة أن تخلخلا معينا حصل في البنية الداخلية للخليج، وإذا تفاقم هذا الامر سيؤدي إلى عدم الاستقرار في المستقبل.
وفي خضم كل هذه الأثار السلبية للصراع الدائر في العراق وسوريا على دول الخليج العربي تبرز إيجابيات تعد أثرا لهذا الصراع، فقد أدرك مواطنو دول مجلس التعاون الخليجي خطورة الجار الإيراني عليهم، وتنبهوا لعدو يعيش بينهم ويحمل هويتهم لكن ولائه لإيران بالكامل ويسعى جاهدا لجعل بلاده خاضعة لإيران منضوية تحت مشروعها، وعرفوا كيف يتعاملون معه داخليا خصوصا وأن هذا العدو كشر عن انيابه وأظهر ولائه لإيران رافعا برقع التقية، وأصبح الخطر الإيراني هاجس كل من يعيش على أرض دول الخليج العربي، ووصلت بعض الدول إلى قناعة بضرورة الحد من الخطر الإيراني والتعامل معها خارج حدود دول الخليج.
بعد كل ذلك فإن الصراع في العراق وسوريا لا يمثل شأنا داخليا فآثاره تعد الحدود وأثرت على دول كثيرة منها دول الخليج العربي، ولا بد لهذه الدول أن يكون لها استراتيجية بعيدة الأمد للتعامل مع آثار الصراع ومحاولة إخماده خارج حدودها وأن تكون لاعبا أساسيا في منطقة الصراع لتدرأ عن نفسها الخطر.
بقلم: د. فراس الزوبعي