داعش أو الدولة الإسلامية كما هو اسمها اليوم لم تنشأ هكذا فجأة دون مقدمات، كما أن الفكر الذي تحمله مر بمراحل عبر التاريخ حتى وجد له ظروفا وبيئة مناسبة في عصرنا الحالي ليظهر بقوة من جديد.
قبل الحديث عن أي شيء تأملوا معي هذه القصة التي سمعتها من معتقل سابق في إحدى المعتقلات الأمريكية في العراق، يقول ذات ليلة وفي عملية تحاكي أفلام الأكشن الأمريكية فجرت أبواب منزلنا وجاءت مروحية أمريكية لتنطلق منها عملية إنزال على سطح المنزل وبعد تفتيش وتخريب لمحتويات البيت تم اعتقال الرجال جميعهم وبعد ساعات من الإهانة والتعذيب أبلغونا أنهم اعتقلونا بالخطأ وأن المنزل المقصود لم يكن منزلنا، وأنه سيتم إطلاق سراحنا فورا، ويبدو أن كلمة فورا عند الأمريكان تعني مدة زمنية تتراوح بين السنة والسنتين، فقد رحل أفراد الأسرة إلى معتقلات مختلفة وتم التفريق بينهم، يقول راوي القصة وضعوني في مخيم كل نزلائه من المتشددين والتكفير إحدى سمات المخيم، ولكوني أتقن اللغة الإنكليزية أصبحت مترجم المخيم وبعد فترة تحدثت إلى أحد الجنود وشرحت له وضعي وأنني أرغب في الانتقال إلى مخيم آخر فلا يوجد هناك أي توافق فكري بيني وبين باقي المعتقلين ولا أرغب بالوقوع في مشكلة معهم فوعدني أن يبحث الأمر مع الضابط المسؤول، وفعلا نقلت بعد أيام إلى مخيم آخر وعندما دخلت ذلك المخيم وجدت المعتقلين قد عقدوا جلسة محاكمة لشخص أنكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ارتد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمدة ست ساعات وتاب بعدها، وتصورت أن هذه مزحة فقلت لهم ست ساعات ونصف بالضبط، فتحولوا إلى بنظرات خشيت أن أقتل بعدها واكتشفت أن المخيم السابق يعد مخيم المعتدلين بالنسبة لهؤلاء، إلى هنا انتهت هذه القصة، لكني في التوقيت ذاته سمعت قصة أخرى عن شخص دخل المعتقل نفسه وعندما دخل المخيم استقبله المعتقلون وأول سؤال وجه إليه، هل اعتقلت بالخطأ فأجابهم، لا فقد اعتقلت وأنا أقود شاحنة محملة بالقنابل، فقالوا له أبشر ستخرج بسرعة وبالفعل بقي عشرة أيام فقط ثم أطلق سراحه، هاتان القصتان كانتا قبل عشر سنوات تقريبا.
لا أود الحديث هنا عن توصيف لداعش أو ربطها تاريخيا بفرقة إسلامية، لكن هناك حقيقة مفادها أن هذا التنظيم ظهر في العراق بعد الاحتلال الأمريكي تحت مسميات عدة وهو امتداد لتنظيم القاعدة في أفغانستان لكنه مر بمراحل جعلت منه ثلاثة أجيال ونحن نشهد اليوم الجيل الثالث منه وهو أشدها فتكا من سابقيه وعلى المستوى الفكري تطور ليكفر حتى تنظيم القاعدة نفسه، وأريد هنا الانطلاق من القصتين السابقتين إلى مجموعة حقائق:
الأولى أن التكفير صناعة ومصانعها السجون والمعتقلات وهكذا نشأ في العصر الحديث في مصر وغيرها ثم مؤخرا افتتح الأمريكان أكاديميات له في معتقلاتهم في العراق وكثير من حملات الاعتقالات لم تكن بطريق الخطأ لكن القصد أن يلقوا بشباب في السجون ليختلطوا بمعتقلين أو ربما مجندين لمخابرات دولية بصفة معتقلين ليتلقوا هذا الفكر، وبذلك هم غير محتاجين لمن يحمل هذا الفكر داخل المعتقلات حتى أصبحت هناك قناعة لدى المعتقلين أن البريء تطول مدة إقامته في المعتقل.
الحقيقة الثانية: أن أفضل الحروب على الإسلام وأقلها كلفة تلك التي تكون بيد أبنائه وبصناعة التكفير يكون العدو قد حصل على سلاح يصل إلى عمق المجتمع الإسلامي فمن الممكن أن يعمل هذا السلاح في كل بيت فيكفر الأخ والأب والأم وقد يقتل تقربا لله عز وجل.
الحقيقة الثالثة: أن صناعة التكفير صناعة غربية بامتياز وليس شرطا أن تكون دولة واحدة ورائها فالواضح أنها صناعة تكاملية اشتركت فيها مجموعة من الدول.
الحقيقة الرابعة: صناعة التكفير استهدفت موارد الأمة البشرية بأفضل مراحلها وأنواعها فهي تستهدف فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشر والأربعين وعلى وجه الخصوص من يمتاز منهم بالقوة والشجاعة والجرأة.
الحقيقة الخامسة: اقتران التكفير بتنظيم مسلح يعني عملية ترشيق للمجتمع الإسلامي فالقاتل والمقتول كلاهما مسلم وساحة المعركة أرض المسلمين والنتيجة إفشال كل المشاريع وتدمير للبنى التحتية.
الحقيقة السادسة: أن صانع التكفير عندما صنع هذا السلاح صنع معه سلاحه المضاد فهو وإن أطلق هؤلاء الشباب في الأرض لكنه أوجد طريقة جمعهم في مكان واحد للقضاء عليهم من خلال تنظيم مسلح كبير وضخم يستقطبهم في مساحة محدودة من الأرض ليتمكن هو من التخلص منهم عندما يشاء.
الحقيقة السادسة: أراد الغرب من هذه الصناعة أن يقدم للعالم صورة خاصة عن الجهاد الإسلامي تدفع بالمسلمين لإنكار أصل من أصول الدين وهو الجهاد في سبيل الله.
يتوجه العالم اليوم لعقد حلف كبير لمواجهة تنظيم داعش أو الدولة الإسلامية، والسؤال هل سيتمكن من القضاء عليها؟ أم ستكون هذه فرصة لتوافد كل الشباب المؤمنين بفكر التكفير من كل دول العالم والذين لم يخرجوا من دولهم بعد ليتجمعوا في العراق للمشاركة في هذه الحرب التي ستسحق المدنيين والمقاتلين وستطول لسنوات حتى تستنزف الموارد البشرية الإسلامية؟ هناك اليوم واجب كبير على العلماء والمفكرين والدعاة وقبلهم الحكام للحفاظ على أبناء المسلمين الذين لم يلتحقوا بعد بهذا التنظيم، ولا يكون ذلك إلا بنشر الفكر السليم وتوظيف طاقات الشباب في المسار الصحيح، فالملاحقة بالاعتقال والسجن ليست إلا حافزا ومشجعا لتنامي التكفير والتطرف.
بقلم: د. فراس الزوبعي