مشهدان للجاسوسية مر بهما العراق في زمنين مختلفين، تم التعاطي مع المشهد الأول بطريقة مغايرة في التعاطي مع المشهد الثاني، والسبب هو الفرق بين صنفين من البشر.
المشهد الأول كان في زمن الرئيس الراحل عبدالرحمن عارف، الذي حكم العراق مدة سنتين وثلاثة أشهر فقط، بعدها أطاح حزب البعث بحكمه وتولى السلطة الرئيس الراحل أحمد حسن البكر، ولاشك أن حزب البعث كغيره من الأحزاب السياسية يسعى للوصول إلى السلطة، وهذا هو السبب الأهم للإطاحة بحكم عارف، لكن السبب الآخر الذي أعلن للناس وهو سبب حقيقي وموجود هو انتشار الجواسيس الذين يعملون لصالح إسرائيل وقسم منهم لصالح أمريكا وقد أخذوا حريتهم في تلك الفترة بشكل كبير، ليس لأن الرئيس عارف متواطئ معهم أو أنهم يعملون بموافقته ورضاه، فالرجل كان مخلصاً وطنياً نزيهاً، لكنه لم يكن حازماً في القضاء عليهم، وهذا الموضوع لم يتذمر منه البعثيون وحدهم بل كان مزعجاً ومقلقاً لكل أفراد الشعب، وبعد أن تسلم حزب البعث السلطة بأشهر قليلة تمكن من جمع الجواسيس من كل أنحاء العراق وبعد التحقيقات معهم اعترفوا وكشفوا باقي أعضاء الشبكة، فتم الحكم عليهم بالإعدام وأطلق عليهم الرصاص في ميدان للرمي ثم نقلوا إلى ساحة التحرير مركز بغداد ونصبت لهم أعمدة وعلقوا عليها ليشاهدهم الناس ويكونوا عبرة، وقد كانوا بضعة عشر من الجواسيس.
المشهد الثاني في عراق اليوم، عراق الولي الفقيه والعم سام، حيث تطورت الجاسوسية وأصبحت تعمل بالقانون، بل أصبح عمل الجواسيس مطلباً لأتباع الولي الفقيه، ولم يعد الجواسيس يعملون بالخفية كما كانوا، فقد أصبح لهم مركز عمليات استخباري يجمع روسيا وإيران وتابعيها سوريا والعراق في وسط بغداد، وتقسم الأدوار فتكون أجهزة التجسس حصة روسيا، وأمريكا تراقب وتقول لا بأس لكن زودونا بإنتاجكم من المعلومات الاستخبارية، وليت الأمر وقف عند هذا الحد لكنه سباق بين المتسلطين على العراق فيفاجئنا وزير داخلية العراق بإعلانه أنه توصل بجهوده الجبارة إلى إقناع الاتحاد الأوروبي بفتح مركز استخباري في العراق داعياً إياهم لمراقبة الفضاء الإلكتروني ووسائط التواصل الاجتماعي أيضاً، يحصل كل هذا ولا يوجد معترض.
السبب في طريقة التعامل مع المشهدين هو من يعمل في الساحة السياسية، ففي المشهد الأول اختلفنا مع السياسيين أيامها أو اتفقنا فلن يغير هذا من حقيقة أنهم كانوا يرون الخيانة والجاسوسية أموراً لا يمكن السكوت عليها، أما سياسيو اليوم في العراق فهم أنفسهم خونة دون استثناء، وأكثر من ذلك أن أغلبهم قبل وصولهم إلى الحكم عملوا بصفة جواسيس على البلد الذي حملوا جنسيته، وأبسط مثال وزير الداخلية الذي اتفق مع الاتحاد الأوروبي على فتح مركز استخباري، كان هذا الشخص يقاتل في صفوف الجيش الإيراني في حربهم العدوانية على العراق، فإذا كانت الصورة هذه فمن الطبيعي أن يصبح العراق مسرحاً للجواسيس، لكن لابد للجواسيس والذين جاؤوا بهم أن يضعوا التاريخ نصب أعينهم، لأن أعمار الجواسيس في العراق قصيرة، وكلها انتهت بالإعدام.
بقلم: د. فراس الزوبعي