ما الذي جعل أكثر العرب يحبسون أنفاسهم ليلة السبت الماضي ولا يستطيعون النوم حتى الفجر ليتابعوا أمراً خارج حدود دولهم؟ كيف تمكن رئيس انقلب عليه وعلى نظامه الجيش وحاول اغتياله من البقاء في السلطة من خلال مكالمة فيديوية استمرت ثواني معدودات، بينما فشل غيره في هذا الأمر؟ أعلم أن ما سأكتبه هنا سيثير حفيظة البعض ممن يتعاطى بعواطفه سلباً أو إيجاباً مع النظام الحاكم في تركيا والمدرسة الفكرية التي ينتمي لها، لكن الواجب يقتضي أن أكتب هذا الكلام، فحادثة الانقلاب الفاشل في تركيا أعطت دروساً مجانية ونبهت لأمور قد يستخف بها البعض، والسعيد من اكتفى بغيره وتعلم من مصائبه لا من مصائب نفسه، وكما أن السياسة لا مجال للعواطف فيها، فكذلك الكتابة فيها.
لقد فقد الرئيس التركي أردوغان كل سلطاته في لحظة فاستخدم سلطات الشعب لاستعادتها، وحركهم من خلال مكالمة تعلمهم أنه على قيد الحياة ليخرجوا إلى الشوارع بالملايين ويفشلوا انقلاباً كبيراً بترتيبات محكمة، وما هو أكيد أنهم لم يخرجوا لسواد عيون أردوغان «مع أنه ليس أسود العينيين» ولم يهتفوا باسمه أو يرفعوا صوره، لكن أردوغان ونظامه وحزبه من خلفه نجحوا في ربط الناس بهم وفق قاعدة «فيد واستفيد» فأردوغان وحزبه يريدون السلطة والشعب يريد تحقيق مصالحه والحصول على المكاسب، والاستمرار في السلطة يقابله الاستمرار في تحقيق المكاسب للطرف الآخر وهو الشعب وهكذا خرج الملايين دفاعاً عن مصالحهم ومكاسبهم التي تحققت على يد هذا النظام الحاكم، وليجنبوا أنفسهم وبلادهم مغامرات العسكر التي قد تعود بهم إلى الوراء عشرين سنة، خصوصاً وأن ذاكرتهم ارتبطت بأحداث سيئة مع الانقلابات العسكرية.
هكذا نجح حزب ذو خلفيته إسلامية في إدارة تركيا وهي دولة كبيرة متنوعة الأعراق والأديان والطوائف وتمكن من الحفاظ على السلطة فيها عندما أصبح عابراً للحزبية والفئوية والطائفية في إدارة الدولة، كبر هذا الحزب فكبرت عباءته معه ليدخل تحتها كل أبناء البلد، بل كبرت لدرجة أنها أدخلت تحتها العرب، سواء كانوا أولئك المضطهدين في بلدانهم وهم بالملايين كالعراقيين والسوريين، الذين أغلقت كل الدول أبوابها في وجوههم أم أولئك الذين أصبحت لهم مصالح تجارية واستثمارات في تركيا بل حتى أولئك الذين يذهبون للاستجمام فيها صيفاً، كل أولئك حبسوا أنفاسهم في تلك اللية، وكل أولئك استطاع النظام التركي أن يربطهم بتركيا بشكل أو بآخر من خلال المصالح، وبالتأكيد ما يفعله مع العرب يحقق من ورائه المصالح فالسياسة لا تعرف سواد العيون، لكن المبهر هو القدرة على تحقيق المصالح الحزبية ومصالح الدولة وشعبها ومصالح الآخرين من خارج الدولة كلها في آن واحد، وهذا ما فشل فيه الإخوان في العالم العربي مع أنهم والنظام الحاكم في تركيا ينتمون لمدرسة فكرية واحدة، إلا أن الإخوان العرب ضاقت عليهم عباءتهم فلم تستطع استيعابهم فضلاً عن استيعاب غيرهم من أبناء الشعب، فكانت السلطة أو جزء منها مجرد مغانم توزع على عائلات الحزب المتنفذة فيه وليس على كل أفراده، ومن دون أن يقدموا للجمهور شيئاً أرادوا تأييده ودعمه، فقط لأنهم يرفعون شعار الإسلام، وكأن الجماهير مشجعين في مباراة كرة قدم بين فريقي المسلمين والكفار.
أن أهم درس قدمه انقلاب تركيا الفاشل هو أن من يريد أن يكون زعيماً أو رمزاً أو قائداً يؤثر في الجماهير عليه أن يتحرك في دائرة تحقيق مصالح جمهوره، ليحقق له مصلحته ويكونوا بدورهم مدافعين عنها.
بقلم: د. فراس الزوبعي