وسيلة قديمة جديدة لحل الأزمات السياسية، لكن يبدو أن من يستخدمها حديثاً أكثر جرأة ممن سبقه.
في الماضي..عندما عقدت المعاهدة العراقية – البريطانية الأولى في عهد الملك فيصل الأول، انتقل الحديث عنها من المجلس النيابي وأروقة المجالس السياسية إلى مقاهي بغداد الشعبية فتصاعد الشعور بالعداء للإنجليز، وبدل الاندماج بلعب الطاولة والدومنة أصبح رواد المقاهي يتحدثون عن المعاهدة وكلما مر جنود إنجليز أمام المقاهي انبرى لهم رواد المقهى ليستفزوهم ويفتعلوا معهم المشاكل، فينادونهم «صاحب.. صاحب.. وين شاربك؟» وكانوا يسمون الجندي الإنجليزي «صاحب»، فيعقب ذلك استهزاء وضحك من باقي رواد المقهى غالباً ما ينتهي بشجار مع الإنجليز، هذا الأمر أزعج سلطات الاحتلال البريطاني فأبلغت دوائر الشرطة لتتصرف مع هذه الحالات، وعندما علم الملك فيصل الأول بما يحدث في المقاهي تساءل عن حل يبعد عوام الناس عن حديث السياسة والانشغال بها، وقتها كان وزير المالية اليهودي ساسون حسقيل قد عاد لتوه من إسطنبول، فذكر للملك أنه شاهد هناك السيرك البلجيكي ورأى أنه أصبح حديث الناس، حتى أن نظيره التركي أول ما سأله عن السيرك إن كان قد شاهده، فأعجبت الفكرة الملك فيصل وطلب من وزيره جلب فرقة السيرك هذه بأي وسيلة، وبالفعل وصلت بقافلة كبيرة وفيها عدد من الفيلة والأسود والنمور، وبنت خيمها الكبيرة وأقفاص حيواناتها في شارع الرشيد ببغداد، ونسي أهل بغداد الحديث عن المعاهدة وأصبح حديثهم عن «عجائب السركس» كما يسموه، والشابات الجميلات اللواتي يلاعبن الأفيال، وكلما مرت بهم أزمة سياسية قالوا: «يا ليت يجي السركس ونخلص من هالمشكلة».
في الحاضر.. بعد مرور أقل من قرن بقليل على هذا الأمر يبدو أن ساسة المنطقة الخضراء في العراق الذين جلبتهم أمريكا وإيران، بدأوا يتعلمون من التاريخ، ولكونهم متدينون ينتمون لأحزاب دينية فهم «يستحرمون» جلب السيرك إلى العراق حتى لا يفتن الشعب بالشقراوات الأوروبيات، فقرروا وبكل جرأة وبإضافة نوعية عمن سبقهم أن يجعلوا من عمليتهم السياسية ذلك السيرك المنقذ، ومن مبنى برلمانهم تلك الخيمة الكبيرة، ومن أنفسهم أبطال السيرك فهم بين مدربين وفيلة وأسود ونمور وكلاب وتماسيح وقردة وغير ذلك من مكونات السيرك، والجمهور العراقي نفسه ذلك الجمهور نسي المظاهرات ومآسي المهجرين والنازحين وفقدان أبسط الخدمات، واحتلال إيران له وإعادة انتشار القوات الأمريكية، وانشغلوا بالسيرك ليتحدثوا عن شجاعة وزير الدفاع وفضحه ملفات الفساد، ولم يفكروا لحظة أن السيرك الذي يتابعون مشاهده «العملية السياسية» هو منظومة جمعت الفاسدين والمجرمين، وليس فيها فاسد وشريف، وإنما كل أعضائها فاسدون مجرمون دون استثناء، والقضية ليست أكثر من عرض سيركي جرى بتنسيق بين خدم إيران في العراق والأمريكان، كما كان السيرك الأول مجرد وسيلة للتخلص من ضغط الإنجليز.
بقلم: د. فراس الزوبعي